الآية وصف مائهم باللذة والنشأة ، وما ذكر أولا هو الظاهر نعم قال غير واحد : لا اشتراك بين ما في الدنيا وما في الجنة إلا بالأسماء فحقيقة خمر الجنة غير حقيقة خمر الدنيا وكذا سائر ما فيهما (بَيْضاءَ) وصف آخر للكأس يدل على أنها مؤنثة. وعن الحسن أن خمر الجنة أشد بياضا من اللبن. وأخرج ابن جرير عن السدي أن عبد الله قرأ «صفراء» وقد جاء وصف الخمر الدنيا بذلك كما في قول أبي نواس :
صفراء لا تنزل الأحزان ساحتها |
|
لو مسها حجر مسته سراء |
والمشهور أن هذا بعد المزج وإلا فهي قبله حمراء كما قال الشاعر :
وحمراء قبل المزج صفراء بعده |
|
أتت في ثيابي نرجس وشقائق |
حكت وجنة المحبوب صرفا فسلطوا |
|
عليها مزاجا فاكتست لون عاشق |
(لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ) وصفت بالمصدر للمبالغة بجعلها نفس اللذة ، وجوز أن تكون لذة تأنيث لذ بمعنى لذيذ كطب بمعنى طبيب حاذق ، وأنشدوا قوله :
ولذ كطعم الصرخدي تركته |
|
بأرض العدا من خشية الحدثان |
يريد وعيش لذيذ كطعم الخمر المنسوب لصرخد بلد بالشام ، وفسره الزمخشري بالنوم وأراد أنه بمعنى لذيذ غلب على النوم لا أنه اسم جامد ، وقوله :
بحديثك اللذ الذي لو كلمك |
|
أسد الفلاة به أتين سراعا |
وفي قوله تعالى (لِلشَّارِبِينَ) دون لهم إشارة إلى أنها يلتذ بها الشارب كائنا من كان (لا فِيها غَوْلٌ) أي غائلة كما في خمر الدنيا من غاله يغوله إذا أفسده ، وقال الراغب : الغول إهلاك الشيء من حيث لا يحس به يقال غاله يغوله غولا واغتاله اغتيالا ، ومنه سمي السعلاة غولا ، والمراد هنا نفي أن يكون فيها ضرر أصلا.
وروى البيهقي وجماعة عن ابن عباس أنه قال في ذلك ليس فيها صداع ؛ وفي رواية ابن أبي حاتم عنه لا تغول عقولهم من السكر ، وأخرج الطستي عنه أن نافع بن الأزرق قال : أخبرني عن قوله تعالى (لا فِيها غَوْلٌ) فقال : ليس فيها نتن ولا كراهية كخمر الدنيا قال : وهل تعرف العرب ذلك؟ فقال : نعم أما سمعت قول امرئ القيس :
رب كأس شربت لا غول فيها |
|
وسقيت النديم منها مزاجا |
وفي رواية أخرى عنه أنه فسر ذلك بوجع البطن ، وروي ذلك عن مجاهد وابن زيد وابن جبير واختير التعميم وأن التنصيص على مخصوص من باب التمثيل ، وتقديم الظرف على ما قيل للتخصيص ، والمعنى ليس فيها ما في خمور الدنيا من الغول ، وفيه كلام في كتب المعاني (وَلا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ) أي لا يسكرون كما روي عن ابن عباس وغيره ، وهو بيان لحاصل المعنى ، وأصل النزف نزع الشيء وإذهابه بالتدريج يقال نزفت الماء من البئر إذا نزحته ونزعته كله منها شيئا بعد شيء ، ونزف الهم دمعه نزعه كله ، ويقال شارب نزيف أي نزفت الخمر عقله بالسكر وأذهبته كما ينزف الرجل البئر وينزع ماءها فكأن الشارب ظرف للعقل فنزع منه ، فلا ينزفون مبنيا للمفعول كما قرأ الحرميان والعربيان معناه لا تنزع عقولهم أي لا تنزع الخمر عقولهم ولا تذهبها أو الفاعل هو الله تعالى وتعدية الفعل بعن قيل لتضمينه معنى يصدرون ، وقيل عن للتعليل والسببية ، وأفرد هذا الفساد بالنفي وعطف على ما يعمه لأنه من عظم فساده كأنه جنس برأسه ، وله سميت الخمر أم الخبائث ، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار. وقرأ حمزة والكسائي