بالنسبة إلى المغرقين وتلتزم القول بأنه لم يبق عقب لأحد من أهل السفينة هو من ذرية أحد من المغرقين أي وجعلنا ذريته هم الباقين لا ذرية أحد غيره من المغرقين ، وولد كنعان إن صح وصح بقاء نسله دخل في ذريته والله تعالى أعلم (وَتَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ) في الباقين غابر الدهر (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) مبتدأ وخبر وجاز الابتداء بالنكرة لما فيه من معنى الدعاء ، والكلام وارد على الحكاية كقولك : قرأت (سُورَةٌ أَنْزَلْناها) [النور : ١] وهو على ما قال الفراء وغيره من الكوفيين محكي ـ بترك ـ في موضع نصب بها أي تركنا عليه هذا الكلام بعينه.
وقال آخرون : هو محكي بقول مقدر أي تركنا عليه في الآخرين قولهم سلام على نوح ، والمراد أبقينا له دعاء الناس وتسليمهم عليه أمة بعد أمة ، وقيل : هذا سلام منه عزوجل لا من الآخرين ، ومفعول (تَرَكْنا) محذوف أي تركنا عليه الثناء الحسن وأبقيناه له فيمن بعده إلى آخر الدهر ، ونسب هذا إلى ابن عباس ومجاهد قتادة والسدي وجملة (سَلامٌ عَلى نُوحٍ) معمول لقول مقدر على ما ذكر الخفاجي أي وقلنا سلام إلخ ، وقال أبو حيان : مستأنفة سلم الله تعالى عليهالسلام ليقتدي بذلك البشر فلا يذكره أحد بسوء ، وقرأ عبد الله «سلاما» بالنصب على أنه مفعول (تَرَكْنا) وقوله تعالى : (فِي الْعالَمِينَ) متعلق بالظرف لنيابته عن عامله أو بما تعلق الظرف به. جوز كونه حالا من الضمير المستتر فيه ، وأيا ما كان فهو من تتمة الجملة السابقة وجيء به للدلالة على الاعتناء التام بشأن السلام من حيث أنه أفاد الكلام عليه ثبوته في العالمين من الملائكة والثقلين أو أنه حال كونه في العالمين على نوح. وهذا كما تقول سلام على زيد في جميع الأمكنة وفي جميع الأزمنة. وزعم بعضهم جواز جعله بدلا من قوله تعالى (فِي الْآخِرِينَ) ويوشك أن يكون غلطا كما لا يخفى.
وقوله تعالى (إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) تعليل لما فعل به مما قصه الله عزوجل بكونه عليهالسلام من زمرة المعروفين بالإحسان الراسخين فيه فيكون ما وقع من قبيل مجازاة الإحسان بالإحسان ، وإحسانه مجاهدته أعداء الله تعالى بالدعوة إلى دينه والصبر الطويل على أذاهم ونحو ما ذكر وذلك إشارة إلى ما ذكر من الكرامات السنية التي وقعت جزاء له عليهالسلام ، وما في من معنى البعد للإيذان بعلو رتبته وبعد منزلته في الفضل والشرف ، والكاف متعلقة بما بعدها أي مثل ذلك الجزاء الكامل نجزي الكاملين في الإحسان لاجزاء أدنى منه ، وقوله تعالى : (إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) تعليل لكونه عليهالسلام محسنا المفهوم من الكلام بخلوص عبوديته وكمال إيمانه ، وفيه من الدلالة على جلالة قدرهما ما لا يخفى وإلا فمنصب الرسالة منصب عظيم والرسول لا ينفك عن الخلوص بالعبودية وكمال الإيمان فالمقصود بالصفة مدحها نفسها لا مدح موصوفها (ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ) أي المغايرين لنوح عليهالسلام وأهله وهم كفار قومه أجمعين ، وثم للتراخي الذكرى إذ بقاؤه عليهالسلام ومن معه متأخر عن الإغراق (وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ) أي ممن شايع نوحا وتابعه في أصول الدين (لَإِبْراهِيمَ) وإن اختلفت فروع شريعتيهما أو ممن شايعه في التصلب في دين الله تعالى ومصابرة المكذبين ونقل هذا عن ابن عباس ، وجوز أن يكون بين شريعتيهما اتفاق كلي أو أكثري وللأكثر حكم الكل ، ورأيت في بعض الكتب ولا أدري الآن أي كتاب هو أن نوحا عليهالسلام لم يرسل إلا بالتوحيد ونحوه من أصول العقائد ولم يرسل بفروع ، قيل : وكان بين إبراهيم وبينه عليهماالسلام نبيان هود وصالح لا غير ، ولعله أريد بالنبي الرسول لا ما هو أعم منه ، وهذا بناء على أن ساما كان نبيا وكان بينهما على ما في جامع الأصول ألف سنة ومائة واثنتان وأربعون سنة ، وقيل ألفان وستمائة وأربعون سنة.
وذهب الفراء إلى أن ضمير (شِيعَتِهِ) لنبينا محمد صلىاللهعليهوسلم ، والظاهر ما أشرنا إليه وهو المروي عن ابن عباس ومجاهد وقتادة والسدي وقلما يقال للمتقدم هو شيعة للمتأخر ، ومنه قول الكميت الأصغر بن زيد :