بتقدير القول على ما عرف في الجملة الانشائية إذا وقعت خبرا أي مقول في حقهم (ما أَصْحابُ) إلخ فلا حاجة إلى جعله من إقامة الظاهر مقام الضمير وفيه نظر ، و (الْمَيْمَنَةِ) ناحية اليمين ، أو اليمن والبركة ، و (الْمَشْئَمَةِ) ناحية الشمال من اليد الشؤمى وهي الشمال ، أو هي من الشؤم مقابل اليمن ، ورجح إرادة الناحية فيهما بأنها أوفق بما يأتي في التفصيل ، واختلفوا في الفريقين فقيل : أصحاب الميمنة أصحاب المنزلة السنية ، وأصحاب المشأمة أصحاب المنزلة الدنية أخذا من تيمنهم بالميامن وتشاؤمهم بالشمائل كما تسمع في السانح والبارح ، وهو مجاز شائع ، وجوز أن يكون كناية ، وقيل : الذين يؤتون صحائفهم بأيمانهم والذين يؤتونها بشمائلهم ، وقيل : الذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنة والذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار ، وقيل : أصحاب اليمن وأصحاب الشؤم ، فإن السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم والأشقياء مشائيم على أنفسهم بمعاصيهم ، وروي هذا عن الحسن والربيع ، وقوله تعالى : (وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ) هو الصنف الثالث من الأزواج الثلاثة ، ولعل تأخير ذكرهم مع كونهم أسبق الأصناف وأقدمهم في الفضل ليردف ذكرهم ببيان محاسن أحوالهم على أن إيرادهم بعنوان السبق مطلقا معرض عن إحرازهم قصب السبق من جميع الوجوه.
واختلف في تعيينهم فقيل : هم الذين سبقوا إلى الإيمان والطاعة عند ظهور الحق من غير تلعثم وتوان ، وروي هذا عن عكرمة ومقاتل ، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال : نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون وحبيب النجار الذي ذكر في يس وعليّ بن أبي طالب كرم الله تعالى وجهه وكل رجل منهم سابق أمته وعليّ أفضلهم ، وقيل : هم الذين سبقوا في حيازة الكمالات من العلوم اليقينية ومراتب التقوى الواقعة بعد الإيمان ، وقيل هم الأنبياء عليهمالسلام لأنهم مقدمو أهل الأديان ، وقال ابن سيرين : هم الذين صلوا إلى القبلتين كما قال تعالى : (وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَالْأَنْصارِ) [التوبة : ١٠٠] وعن ابن عباس هم السابقون إلى الهجرة ، وعن عليّ كرم الله تعالى وجهه هم السابقون إلى الصلوات الخمس ، وأخرج أبو نعيم والديلمي عن ابن عباس مرفوعا أول من يهجر إلى المسجد وآخر من يخرج منه.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن عبادة بن أبي سودة مولى عبادة بن الصامت قال : بلغنا أنهم السابقون إلى المساجد والخروج في سبيل الله عزوجل ، وعن الضحاك هم السابقون إلى الجهاد ، وعن ابن جبير هم السابقون إلى التوبة وأعمال البر ، وقال كعب : هم أهل القرآن ، وفي البحر في الحديث «سئل عن السابقين فقال : هم الذين إذا أعطوا الحق قبلوه وإذا سألوه بذلوه وحكموا للناس كحكمهم لأنفسهم» ، وقيل : الناس ثلاثة فرجل ابتكر الخير في حداثة سنه ثم دام عليه حتى خرج من الدنيا فهذا هو السابق ، ورجل ابتكر عمره بالذنب وطول الغفلة ثم تراجع بتوبته فهذا صاحب اليمين ، ورجل ابتكر الشر في حداثة سنه ثم لم يزل عليه حتى خرج من الدنيا فهذا صاحب الشمال ، وعن ابن كيسان أنهم المسارعون إلى كل ما دعا الله تعالى إليه ورجحه بعضهم بالعموم ، وجعل ما ذكر في أكثر الأقوال من باب التمثيل ، وأيا ما كان فالشائع أن الجملة مبتدأ وخبر والمعنى (وَالسَّابِقُونَ) هم الذين اشتهرت أحوالهم وعرفت فخامتهم كقوله :
أنا أبو النجم وشعري شعري
وفيه من تفخيم شأنهم والإيذان بشيوع فضلهم ما لا يخفى ، وقيل متعلق السبق مخالف لمتعلق السبق الثاني أي السابقون إلى طاعة الله تعالى «السابقون» إلى رحمته سبحانه ، أو (السَّابِقُونَ) إلى الخير (السَّابِقُونَ) إلى الجنة ، والتقدير الأول محكي عن صاحب المرشد.