الذي يصدّق بهذه المعجزات العلمية كلها ، المكتشفة حتى الآن لا بدّ له أن يسلّم بأن القرآن هو من عند الله وليس كلام البشر ، وبالتالي فالذي يصدّق في مئات النماذج العلمية ، لما ذا أنكر عليه هذه المعجزة التي لم يصل علمي حتى الآن إليها؟ فلا بد أن أصدّق. وإذا ما سلّم بأن الله تعالى هو الذي تكلم بالقرآن ـ وهذا ما لا بد له منه ـ إذن فلا بد أن يصدّق أن الذي جاء به هو رسول من الله تعالى إلى البشرية ، على السياق المعروف في بعث الرسل أجمعين ، وهكذا تكون القيمة الإيمانية للإنسان المعاصر ، حينما يسلّم غيبا بما لم يثبت له علما ، فيحوز درجة المؤمنين الأوائل الذين آمنوا بالقرآن فصاحة وبلاغة إعجازية ، ولم يستطيعوا أن يصلوا إلى كل معاني القرآن العلمية ، فأسلموا وآمنوا ولم يطلبوا من البرهان أكثر مما جاءهم وتحمّلته عقولهم.
إذن ، معجزة الإسراء والمعراج ، بهذه الصورة الموصوفة بها ، تبقى دليلا أكيدا على إعجاز القرآن وعلى استمرارية دعوة النّبيّ صلىاللهعليهوسلم من خلال القرآن وشموليتها لكل الخلق ، وتؤكّد أن خاتم النبيين لم يترك العالم دون معجزة حتى وهو قد فارق الحياة ، بل ترك لهم معجزة ناطقة تتكلّم بكل اللغات الإنسانية ، وبوجوه متعدّدة تناسب كل عصر من العصور حتى قيام الساعة ، ولغتها اليوم ووجهها هي العلوم والتّقدّم العلمي ، فلو أرسل الرّسول صلىاللهعليهوسلم اليوم إلى العالم لن تتغيّر مفردات كلماته ، ولن يتغيّر القرآن الذي جاء به فهو قد جاء للناس كافة بشيرا ونذيرا وشاهدا على الجميع ، وقد جاء قرآنه ليبقى الكتاب الذي فيه تبيان كل شيء ، لأنه تعالى لم يفرّط في الكتاب بشيء ، ويدلّل كل يوم على صدقه وإعجازه ، وقد أكّد ، بأكثر من آية ، أنّه يتحدّث لكل إنسان في كل عصر على مدى الزمان كله ويعطيه دليله وحجّته (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ) [فصلت / ٥٣] وقد تبيّن لنا اليوم أنّه الحق الأوحد في كل جانب وفي كل مكان وزمان. على أن من ميزة هذه المعجزة أنّها جاءت كحادثة للرّسول صلىاللهعليهوسلم مما تعتبر به تعظيما له وتقديرا وتبجيلا ، فلو كانت آية خبرية لكانت كالآيات الأخر التي تكتسب قيمتها من كونها في القرآن وليس للرسول صلىاللهعليهوسلم فيها إلّا ما له في غيرها من آيات القرآن ، أما هذه المعجزة فهي قد حدثت له شخصيا وفرديا ، ولما كانت هي أعظم المعجزات القرآنية علميا ، كما نفهمها اليوم ، فالرّسول صلىاللهعليهوسلم يكون له من هذه العظمة الإعجازية الحظ الأوفر والموقع المتقدم.
وهكذا نرى أن الله سبحانه وتعالى ، حتى في آيات الإعجاز العلمي التي بهرت العقول والألباب ، جعل لرسوله الكريم أفضلية كبيرة على جميع المعجزات الواردة