وأنت لا تشك في جودة شعر امرئ القيس ، ولا ترتاب في براعته ، ولا تتوقف في فصاحته. وتعلم أنه قد أبدع في طرق الشعر أمورا اتبع فيها من ذكر الديار ، والوقوف عليها ، إلى ما يتصل بذلك من البديع الذي أبدعه ، والتشبيه الذي أحدثه ، والتلميح الذي يوجد في شعره ، والتصرف الكثير الذي يصادفه في قوله ، والوجوه التي ينقسم إليها كلامه ، من صناعة وطبع ، وسلاسة وعلو ، ومتانة ورقة ، وأسباب تحمد ، وأمور تؤثر وتمدح.
وقد ترى الأدباء أولا يوازنون بشعره فلانا وفلانا. ويضمون أشعارهم إلى شعره ، حتى ربما وازنوا بين شعر من لقبناه ، وبين شعره في أشياء لطيفة وأمور بديعة. وربما فضلوهم ، عليه أو سووا بينهم وبينه ، أو قربوا موضع تقدمهم عليه ، وبرزوه بين أيديهم.
ولما اختاروا قصيدته في السبعيات أضافوا إليها أمثالها ، وقرنوا بها نظائرها. ثم تراهم يقولون لفلان لامية مثلها. ثم ترى أنفس الشعراء تتشوق إلى معارضته وتساويه في طريقته. وربما عثرت في وجهه على أشياء كثيرة وتقدمت عليه في أسباب عجيبة.
وإذا جاءوا إلى تعداد محاسن شعره ، كان أمرا محصورا وشيئا معروفا ، أنت تجد من ذلك البديع ، أو أحسن منه في شعر غيره ، وتشاهد مثل ذلك البارع في كلام سواه ، وتنظر إلى المحدثين كيف توغلوا إلى حيازة المحاسن منهم من جمع رصانة الكلام إلى سلاسته ، ومتانته إلى عذوبته ، والإصابة في معناه إلى تحسين بهجته ، حتى أن منهم من إن قصر عنه في بعض ، تقدم عليه في بعض ، لأن الجنس الذي يرمون إليه والغرض الذي يتواردون عليه ، مما للآدمي فيه مجال ، وللبشرى فيه مثال. فكل يضرب فيه بسهم ، ويفوز بقدح. ثم قد تتفاوت السهام تفاوتا ، وتتباين تباينا. وقد تتقارب تقاربا على حسب مشاركتهم في الصنائع ، ومساهمتهم في الحرف.
ونظم القرآن جنس مميز وأسلوب متخصص وقبيل عن النظير متخلص. فإذا شئت أن تعرف عظم شأنه ، فتأمل ما نقوله في هذا الفصل لامرئ القيس في أجود أشعاره. وما نبين لك من عواره على التفصيل وذلك قوله :
قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل |
|
بسقط اللوى بين الدخول فحومل |
فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها |
|
لما نسجتها من جنوب وشمأل |
الذين يتعصبون له ، أو يدعون محاسن الشعر ، يقولون : هذا من البديع لأنه وقف ، واستوقف وبكى واستبكى ، وذكر العهد والمنزل والحبيب. وتوجع واستوجع ، كله في بيت ونحو ذلك.
وإنما بيّنا هذا لئلا يقع لك ذهابنا عن مواضع المحاسن ، إن كانت. ولا غفلتنا عن