يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ) (١) فأخبر أن الكتاب آية من آياته ، وعلم من أعلامه وأن ذلك يكفي في الدلالة ، ويقوم مقام معجزات غيره ، وآيات سواه من الأنبياء ، صلوات الله عليهم. ويدل عليه قوله عزوجل : (تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً. الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) (٢) وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللهِ كَذِباً ، فَإِنْ يَشَإِ اللهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللهُ الْباطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ) (٣) فدل على أنه جعل قلبه مستودعا لوحيه ، ومستنزلا لكتابه ، وأنه لو شاء صرف ذلك إلى غيره. وكان له حكم دلالته على تحقيق الحق ، وإبطال الباطل ، مع صرفه عنه. ولذلك أشباه كثيرة تدل على نحو الدلالة التي وصفناها ، فبان بهذا ونظائره ما قلناه من أن بناء نبوته (صلىاللهعليهوسلم) على دلالة القرآن ومعجزته ، وصار له من الحكم في دلالته على نفسه ، وصدقه ، أنه يمكن أن يعلم أنه كلام الله تعالى ، وفارق حكمه حكم غيره من الكتب المنزلة على الأنبياء ، لأنها لا تدل على أنفسها إلا بأمر زائد ، ووصف مضاف إليها ، لأن نظمها ليس معجزا ، وإن كان ما يتضمنه من الإخبار عن الغيوب معجزا.
وليس كذلك القرآن ؛ لأنه يشاركها في هذه الدلالة ويزيد عليها في أن نظمه معجز فيمكن أن يستدل به عليه ، وحل في هذا من وجه محل سماع الكلام من القديم سبحانه وتعالى ، لأن موسى عليهالسلام لما سمع كلامه علم أنه في الحقيقة كلامه.
وكذلك من يسمع القرآن يعلم أنه كلام الله ، وإن اختلف الحال في ذلك من بعض الوجوه ، لأن موسى عليهالسلام سمعه من الله عزوجل ، وأسمعه نفسه متكلما ، وليس كذلك الواحد منا. وكذلك قد يختلفان في غير هذا الوجه ، وليس ذلك قصدنا بالكلام في هذا الفصل.
والذي نرومه الآن ما بيّنا من اتفاقهما في المعنى الذي وصفنا ، وهو أنه عليهالسلام يعلم أن ما يسمعه كلام الله من جهة الاستدلال. وكذلك نحن نعلم ما نقرؤه من هذا على جهة الاستدلال.
__________________
(١) آية (٥٠ ـ ٥١) سورة العنكبوت.
(٢) آية (١ ، ٢) سورة الفرقان.
(٣) آية (٢٤) سورة الشورى.