ورسائل في غاية الفضل ، لأنا قد بينا أن هذه الأجناس قد وقع النزاع فيها ، والمساماة عليها ، والتنافس في طرقها ، والتنافر في بابها. وكان البون بين البعض والبعض في الطبقة الواحدة قريبا ، والتفاوت خفيفا ، وذلك القدر من السبق إن ذهب عند الواحد لم ييأس منه الباقون ، ولم ينقطع الطمع في مثله.
وليس كذلك سمت القرآن ، لأنه قد عرف أن الوهم ينقطع دون مجاراته ، والطمع يرتفع عن مباراته ومساماته ، وأن الكل في العجز عنه على حد واحد. وكذلك قد يزعم زاعمون أن كلام الجاحظ من السمت الذي لا يأخذ فيه ، والباب الذي لا يذهب عنه. وأنت تجد قوما يرون كلامه قريبا ومنهاجه معيبا ، ونطاق قوله ضيقا حتى يستعين بكلام غيره ، ويفرغ إلى ما يوشح به كلامه من بيت سائر ، ومثل نادر ، وحكمة ممهدة منقولة ، وقصة عجيبة مأثورة.
وأما كلامه في أثناء ذلك فسطور قليلة وألفاظ يسيرة ، فإذا أحوج إلى تطويل الكلام خاليا عن شيء يستعين به فيخلطه بقوله من قول غيره كان كلاما ككلام غيره.
فإن أردت أن تحقق هذا ، فانظر في كتبه في نظم القرآن ، وفي الرد على النصارى ، وفي خبر الواحد ، وغير ذلك مما يجري هذا المجرى. هل تجد في ذلك كله ورقة تشتمل على نظم بديع؟ أو كلام مليح؟ على أن متأخري الكتاب قد نازعوه في طريقته. وجاذبوه على منهجه. فمنهم من ساواه حين ساماه ، ومنهم من أبر عليه إذا باراه. هذا أبو الفضل بن العميد قد سلك مسلكه ، وأخذ طريقه ، فلم يقصر عنه ، ولعله قد بان تقدمه عليه لأنه يأخذ في الرسالة الطويلة فيستوفيها على حدود مذهبه ، ويكملها على شروط صنعته ، ولا يقتصر على أن يأتي بالأسطر من نحو كلامه ، كما ترى الجاحظ يفعله في كتبه ، متى ذكر من كلامه سطرا اتبعه من كلام الناس أوراقا. وإذا ذكر منه صفحة بني عليه من قول غيره كتابا.
وهذا يدلك على أن الشيء إذا استحسن اتبع ، وإذا استملح قصد له وتعمّد ، وهذا الشيء يرجع إلى الأخذ بالفضل والتنافس في التقدم.
فلو كان في مقدور البشر معارضة القرآن لهذا الغرض وحده ، لكثرت المعارضات ، ودامت المنافسات.
فكيف وهناك دواع لا انتهاء لها ، وجوالب لا حد لكثرتها ؛ لأنهم لو كانوا عارضوه لتوصلوا إلى تكذيبه ، ثم إلى قطع المحامين دونه عنه ، أو تنفيرهم عليه ، وإدخال الشبهات على قلوبهم. وكان القوم يكتفون بذلك عن بذل النفوس ، ونصب الأرواح ، والأخطار بالأموال والذراري في وجه عدواته. ويستغنون بكلام هو طبعهم وعادتهم وصناعتهم عن