انتهى إلينا على ما وصفناه من حاله. فلن يتشكّك أحد ، ولا يجوز أن يتشكك ، مع وجود هذه الأسباب ، في أنه أتى بهذا القرآن من عند الله تعالى. فهذا أصل ، وإذا ثبت هذا الأصل وجودا فإنا نقول : إنه تحدّاهم إلى أن يأتوا بمثله ، وقرّعهم على ترك الإتيان به طول السنين التي وصفناها. فلم يأتوا بذلك.
والذي يدل على هذا الأصل ، أنا قد علمنا أن ذلك مذكور في القرآن في المواضع الكثيرة ؛ كقوله : (وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ) (١). وكقوله : (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ. فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللهِ وَأَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) (٢).
فجعل عجزهم عن الإتيان بمثله ، دليلا على أنه منه ، ودليلا على وحدانيته. وذلك يدل عندنا على بطلان قول من زعم أنه لا يمكن أن يعلم بالقرآن الوحدانية ، وزعم أن ذلك مما لا سبيل إليه ، إلا من جهة العقل. لأن القرآن كلام الله عزوجل ، ولا يصح أن يعلم الكلام حتى يعلم المتكلم أولا.
فقلنا : إذا ثبت بما نبيّنه إعجازه ، وأن الخلق لا يقدرون عليه ، ثبت أن الذي أتى به غيرهم ، وأنه إنما يختصّ بالقدرة عليه ، من يختصّ بالقدرة عليهم ، وأنه صدق ، وإذا كان كذلك كان ما يتضمنه صدقا. وليس إذا أمكن معرفته من جهة العقل ، امتنع أن يعرف من الوجهين. وليس الغرض تحقيق القول في هذا الفصل لأنه خارج عن مقصود كلامنا ، ولكنّا ذكرناه من جهة دلالة الآية عليه.
ومن ذلك قوله عزوجل : (قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً) (٣) وقوله : (أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ. فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (٤) فقد ثبت بما بيناه أنه تحداهم إليه ، ولم يأتوا بمثله.
وفي هذا أمران : أحدهما التحدي إليه ؛ والآخر أنهم لم يأتوا له بمثل. والذي يدل
__________________
(١) آية (٢٣ ، ٢٤) سورة البقرة.
(٢) آية (١٣ ، ١٤) سورة هود.
(٣) آية (٨٨) سورة الإسراء.
(٤) آية (٣٣ ، ٣٤) سورة الطور.