فتزعم أن كلام الآدمي قد يضارع القرآن ، وقد يزيد عليه في الفصاحة ولا يتحاشاه. ويحسب أن ما ألفه في الجزء والطفرة هو أبدع وأغرب من القرآن لفظا ومعنى! ولكن ليس الكلام على ما يقدره مقدر في نفسه ، ويحسبه ظان من أمره ، والمرجوع في هذا إلى جملة الفصحاء دون الآحاد. ونحن نبين بعد هذا وجه امتناعه عن الفصيح البليغ ، ونميزه في ذلك عن سائر أجناس الخطاب ، ليعلم أن ما يقدره من مساواة كلام الناس به تقدير ظاهر الخطأ ، بيّن الغلط ، وأن هذا التقدير من جنس من حكى الله تعالى قوله في محكم كتابه : (إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ. فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ. ثُمَّ نَظَرَ ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ. ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ فَقالَ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ. إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ) (١) فهم يعبرون عن دعواهم أنهم يمكنهم أن يقولوا مثله ، بأن ذلك من قول البشر ، لأن ما كان من قولهم فليس يقع فيه التفاضل إلى الحد الذي يتجاوز إمكان معارضته.
ومما يبطل ما ذكروه من القول بالصرفة أنه لو كانت المعارضة ممكنة ، وإنما منع منها الصرفة لم يكن الكلام معجزا ، وإنما يكون المنع معجزا ، فلا يتضمن الكلام فضيلة على غيره في نفسه. وليس هذا بأعجب مما ذهب إليه فريق منهم أن الكلّ قادرون على الإتيان بمثله ، وإنما يتأخرون عنه لعدم العلم بوجه ترتيب لو تعلموه لوصلوا إليه به. ولا بأعجب من قول فريق منهم إنه لا فرق بين كلام البشر وكلام الله تعالى في هذا الباب ، وإنه يصح من كل واحد منهما الإعجاز على حد واحد.
فإن قيل : فهل تقولون بأن غير القرآن من كلام الله عزوجل معجز كالتوراة والإنجيل والصحف ، قيل : ليس شيء من ذلك بمعجز في النظم والتأليف. وإن كان معجزا كالقرآن ، فيما يتضمن من الإخبار بالغيوب. وإنما لم يكن معجزا لأن الله تعالى لم يصفه بما وصف به القرآن ، ولأنّا قد علمنا أنه لم يقع التحدي إليه كما وقع التحدي إلى القرآن.
ولمعنى آخر وهو أن ذلك اللسان لا يتأتى فيه من وجوه الفصاحة ما يقع به التفاضل الذي ينتهي إلى حد الإعجاز. ولكنه يتقارب ، وقد رأيت أصحابنا يذكرون هذا في سائر الألسنة ويقولون : ليس يقع فيها من التفاوت ما يتضمن التقديم العجيب ، ويمكن بيان ذلك بأنا لا نجد في القدر الذي نعرفه من الألسنة للشيء الواحد من الأسماء ما نعرف من اللغة. وكذلك لا نعرف فيها الكلمة الواحدة تتناول المعاني الكثيرة على ما تتناول العربية. وكذلك التصرف في الاستعارات ، والإشارات ، ووجوه الاستعمالات البديعة التي يجيء تفصيلها بعد.
__________________
(١) آية (١٨ : ٢٥) سورة المدثر.