كيف وقد قال لهم : (فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ) (١) فعلى هذا يكون المقصد بتقديم بعض الكلمات ، وتأخيرها إظهارا للإعجاز على الطريقين جميعا ، دون التسجيع الذي توهموه. فإن قال قائل : القرآن مختلط من أول أوزان كلام العرب ، ففيه من جنس خطبهم ورسائلهم وسجعهم وموزون كلامهم الذي هو غير مقفى. ولكنه أبدع فيه ضربا من الإبداع لبراعته وفصاحته ، قيل : قد علمنا أن كلامهم ينقسم إلى نظم ، ونثر ، وكلام مقفى غير موزون ، ونظم موزون ، ليس بمقفى ، كالخطب والسجع ، ونظم مقفى موزون له روىّ ، ومن هذه الأقسام ما هو سجية الأغلب من الناس ، فتناوله أقرب ، وسلوكه لا يتعذر ، ومنه ما هو أصعب تناولا ، كالموزون عند بعضهم ، أو الشعر عند الآخرين ، وكل هذه الوجوه لا تخرج عن أن يقع لهم بأحد أمرين : إما بتعمل ، أو بتكلف وتعلم وتصنع ، أو باتفاق من الطبع وقذف من النفس على اللسان للحاجة إليه.
ولو كان ذلك مما يجوز اتفاقه من الطبائع ، لم ينفك العالم من قوم يتفق ذلك منهم ويتعرض على ألسنتهم ، وتجيش به خواطرهم. ولا ينصرف عند الكل مع شدة الدواعي إليه. ولو كان طريقه التعلم لتصنعوه ولتعلموه فالمهلة لهم فسيحة ، والأمد واسع.
وقد اختلفوا في الشعر كيف اتفق لهم؟ فقد قيل : إنه اتفاق في الأصل غير مقصود إليه على ما يعرض من أصناف النظام في تضاعيف الكلام ، ثم لما استحسنوه واستطابوه ورأوا أنه تألفه الأسماع وتقبله النفوس ، تتبعوه من بعد وتعلموه.
وحكى لي بعضهم عن أبي عمر (٢) وغلام ثعلب ، عن ثعلب (٣) : أن العرب تعلّم أولادها قول الشعر بوضع غير معقول يوضع على بعض أوزان الشعر كأنه على وزن : «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل» ويسمون ذلك الوضع الميتر ، واشتقاقه من المتر ، وهو الجذب أو القطع ، يقال مترت الحبل ، بمعنى قطعته أو جذبته. ولم يذكر هذه الحكاية عنهم غيره فيحتمل ما قاله ، وأما ما وقع السبق إليه فيشبه أن يكون على ما قدمنا ذكره أولا.
وقد يحتمل على قول من قال : بأن اللغة اصطلاح ، أنهم تواضعوا على هذا الوجه من النظم. وقد يمكن أن يقال مثله على المذهب الآخر ، وأنهم وقفوا على ما ينصرف إليه
__________________
(١) آية (٣٤) سورة الطور.
(٢) اختلف في اسمه على أحد وعشرين قولا أصحها زبان.
(٣) ثعلب هو : أبو العباس ثعلب إمام الكوفيين في النحو واللغة. ومن مصنفاته : معاني القرآن ، ومعاني الشعر ، والقراءات ، وغريب القرآن. مات سنة (٢٩١). له ترجمة في : بغية الوعاة ١ / ٣٩٦ ، ووفيات الأعيان ١ / ٣٠ ، ومعجم الأدباء ٢ / ١٣٣ ، والفهرست (٧٤).