القول من وجوه التفاصح ، أو توافقوا هم بينهم على ذلك ، ويمكن أن يقال : إن التواضع وقع على أصل الباب ، وكذلك التوقيف ، ولم يقع على فنون تصرف الخطاب ، وإن الله تعالى أجرى على لسان بعضهم من النظم ما أجرى ، وفطنوا لحسنه فتتبعوه من بعد وبنوا عليه وطلبوه ورتبوا فيه المحاسن التي يقع الاضطراب بوزنها ، وتهش النفوس إليها ، وجمع دواعيهم وخواطرهم على استحسان وجوه من ترتيبها ، واختيار طرق من تنزيلها.
وعرفهم محاسن الكلام ودلهم على كل طريقة عجيبة ، ثم أعلمهم عجزهم عن الإتيان بالقرآن ، والقدر الذي يتناهى إليه قدرهم ، هو ما لم يخرج عن لغتهم ، ولم يشذ من جميع كلامهم. بل قد عرض في خطابهم ووجدوا أن هذا إنما تعذر عليهم مع التحدي والتقريع الشديد ، والحاجة الماسة إليه مع علمهم بطريق وضع النظم والنثر.
وتكامل أحوالهم فيه دل على أنه اختص به ليكون دلالة على النبوة ومعجزة على الرسالة ، ولو لا ذلك لكان القوم إذا اهتدوا في الابتداء إلى وضع هذه الوجوه التي يتصرف إليها الخطاب على براعته وحسن انتظامه ، فلأن يقدروا بعد التنبيه على وجهه ، والتحدي إليه أولى أن يبادروا إليه لو كان لهم إليه سبيل ، فلو كان الأمر على ما ذكره السائل ، لوجب أن لا يتحيروا في أمرهم ، ولا تدخل عليهم شبهة فيما نابهم ، ولكانوا يسرعون إلى الجواب ، ويبادرون إلى المعارضة.
ومعلوم من حالهم أن الواحد منهم يقصد إلى الأمور البعيدة عن الوهم والأسباب التي لا يحتاج إليها ، فيكثر فيها من شعر ورجز ، ونجد من يعينه على نقله عنه على ما قدمنا ذكره من وصف الإبل ونتاجها. وكثير من أمرها لا فائدة في الاشتغال به في دين ولا دنيا. ثم كانوا يتفاخرون باللسن والذلاقة والفصاحة والذرابة ، ويتنافرون فيه. وتجري بينهم فيه الأسباب المنقولة في الآثار على ما لا يخفى على أهله.
فاستدللنا بتحيّرهم في أمر القرآن على خروجه عن عادة كلامهم ، ووقوعه موقعا يخرق العادات ، وهذه سبيل المعجزات ، فبان بما قلنا إن الحروف التي وقعت في الفواصل متناسبة موقع النظائر التي تقع في الإسجاع ، لا يخرجها عن حدها ولا يدخلها في باب السجع.
وقد بينا أنهم يذمون كل سجع خرج عن اعتدال الأجزاء ، فكان بعض مصاريعه كلمتين ، وبعضها تبلغ كلمات ، ولا يرون في ذلك فصاحة ؛ بل يرونه عجزا. فلو رأوا أن ما تلي عليهم من القرآن سجعا ، لقالوا : نحن نعارضه بسجع معتدل ، فنزيد في الفصاحة على طريقة القرآن ، ونتجاوز حده في البراعة والحسن ، ولا معنى لقول من قدر أنه ترك السجع