مكدود في صنعته. فقد أدى ذلك إلى خوض الملحدين في أصول الدين ، وتشكيكهم أهل الضعف في كل يقين. وقد قل أنصاره ، واشتغل عنه أعوانه ، وأسلمه أهله ، فصار عرضة لمن شاء أن يتعرض فيه ، حتى عاد مثل الأمر الأول على ما خاضوا فيه عند ظهور أمره ، فمن قائل قال : إنه سحر. وقائل يقول : إنه شعر. وآخر يقول : إنه أساطير الأولين. وقالوا : لو نشاء لقلنا مثل هذا ، إلى الوجوه التي حكى الله عزوجل عنهم أنهم قالوا فيه وتكلموا به ، فصرفوه إليه.
وذكر لي عن بعض جهالهم أنه جعل يعدله ببعض الأشعار ، ويوازن بينه وبين غيره من الكلام ، ولا يرضى بذلك حتى يفضله عليه!
وليس هذا ببديع من ملحدة هذا العصر ، وقد سبقهم إلى عظم ما يقولونه إخوانهم من ملحدة قريش وغيرهم. إلا أن أكثر من كان طعن فيه في أول أمره ، استبان رشده ، وأبصر قصده ، فتاب وأناب ، وعرف من نفسه الحق بغريزة طبعه ، وقوة إتقانه ، لا لتصرف لسانه ، بل لهداية ربه وحسن توفيقه. والجهل في هذا الوقت أغلب ، والملحدون فيه عن الرشد أبعد ، وعن الواجب أذهب.
وقد كان يجوز أن يقع ممن عمل الكتب النافعة في معاني القرآن ، وتكلم في فوائده من أهل صنعة العربية وغيرهم من أهل صناعة الكلام ، أن يبسطوا القول في الإبانة عن وجه معجزته ، والدلالة على مكانه. فهو أحق بكثير مما صنفوا فيه من القول في الخبر ، ودقيق الكلام في الأعراض ، وكثير من بديع الإعراب ، وغامض النحو. فالحاجة إلى هذا أمس ، والاشتغال به أوجب.
وقد قصر بعضهم في هذه المسألة ، حتى أدى ذلك إلى تحول قوم منهم إلى مذاهب البراهمة فيها ، ورأوا أن عجز أصحابهم عن نصرة هذه المعجزة يوجب أن لا يستنصر فيها ، ولا وجه لها حين رأوهم قد برعوا في لطيف ما أبدعوا ، وانتهوا إلى الغاية فيما أحدثوا ووضعوا. ثم رأوا ما صنفوه في هذا المعنى غير كامل في بابه ، ولا مستوفى في وجهه ، قد أخلّ بتهذيب طرقه ، وأهمل ترتيب بيانه ، وقد يعذر بعضهم في تفريط يقع منه فيه ، وذهاب عنه ، لأن هذا الباب مما يمكن إحكامه بعد التقدم في أمور شريفة المحل ، عظيمة المقدار ، دقيقة المسلك ، لطيفة المأخذ.
وإذا انتهينا إلى تفصيل القول فيها ، استبان ما قلناه من الحاجة إلى هذه المقدمات ، حتى يمكن بعدها إحكام القول في هذا الشأن.
وقد صنف «الجاحظ» (١) في نظم القرآن كتابا ، لم يزد فيه على ما قاله المتكلمون
__________________
(١) الجاحظ هو : أبو عثمان عمرو بن بحر بن محبوب الكناني الليثي بالولاء. بلغ من الذكاء وجودة