وربما همّوا بالهروب ، تماما كما هو الإنسان عند ما يدهمه الخطر فيحاول الفرار منه ، ولكن إلى أين يهربون (فَلا فَوْتَ) فإن الله لا يفوته أحد من عباده مهما كان قويا ، إذا أراد أن يأخذه ، (وَأُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ) لأن الله أقرب إلى الإنسان من نفسه ، فلا مجال لأيّ فاصل يفصله عنه .. وقد جرى التعبير عنه بلحاظ الأمور المادية ، لأننا لا نستطيع تصوّر الجانب التجريدي من حقائق الغيب التي لا يحيط بها إلا الله.
(وَقالُوا آمَنَّا بِهِ) أي بالقرآن أو بالنبي ، أو بالإسلام عند ما واجهوا المصير الذي يكشف لهم حقيقة الآخرة ، (وَأَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ) أي التناول ، أي الرجوع إلى خط الإيمان (مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) وهو عالم الآخرة الذي لا مجال فيه لتغيير المواقف ، لأن الدنيا هي الفرصة الوحيدة لذلك كله ، وهي بعيدة عنهم الآن كل البعد ، لأن الرجوع إليها مستحيل من خلال رفض الله لذلك ، وهو الذي يملك الأمر كله.
(وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ) من دون حجّة ولا برهان ، وكانت الحجة على الحق واضحة أمامهم وضوح الشمس (وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ) فقد كانوا يرمون حقائق الإيمان بأضاليلهم وأوهامهم وينكرون الآخرة من مواقعهم في الدنيا ، البعيدة عنها.
(وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ ما يَشْتَهُونَ) من اللذائذ والشهوات المادية التي كانوا يعيشون من أجلها في الدنيا ، وجاءهم الموت لينهي كل شيء من أمورهم الحسية الذاتية (كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ) من الأمم الماضية التي كفرت كما كفروا ، وتمرّدت كما تمردوا (إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ) كما كانت الأنبياء تذكّرهم به من الحق أو من الآخرة ، ولكنه الشك الذي لا يخضع لتحليلات فكرية ، بل يخضع للأوهام الطائرة التي لا ترتكز على أساس الفكر العميق.
* * *