من ورائي من بعد موتي ولكن من ورائي في ذلك الوقت ، وهذا أيضا بعيد يحتاج إلى دليل أنّهم خفّوا في ذلك الوقت وقلّوا ، وقد أخبر الله عزوجل عنهم بما يدلّ على الكثرة حين قالوا : أيّهم يكفل مريم؟ (وَكانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً) أي لا تلد كأنّ بها عقرا.
والفعل منه عقرت مسموع من العرب ، والقياس عقرت. (فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا) والمستقبل يهب ، والأصل يوهب بكسر الهاء ، ومن قال : الأصل يوهب بفتح الهاء فقد أخطأ لأنه لو كان كما قال لم تحذف الواو وكما لم تحذف في يوجل ، وإنما حذفت الواو لوقوعها بين ياء وكسرة ثم فتح بعد حذفها لأن فيه حرفا من حروف الحلق.
وقرأ أهل الحرمين والحسن وعاصم وحمزة (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (١) برفعهما ، وقرأ يحيى بن يعمر وأبو عمرو ويحيى بن وثاب والأعمش والكسائي (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) (٢) بالجزم فيهما. قال أبو جعفر : القراءة الأولى بالرفع أولى في العربية وأحسن ، والحجّة في ذلك ما قاله أبو عبيد فإن حجّته حسنة. قال : المعنى :
فهب لي من لدنك الوليّ الذي هذه حاله وصفته لأن الأولياء منهم من لا يرث ، فقال :
هب الّذي يكون وارثي ، وردّ الجزم ؛ لأن معناه إن وهبته لي ورثني ، فكيف يخبر الله جلّ وعزّ بهذا وهو أعلم به منه؟ وهذه حجة مقتضاة لأن جواب الأمر عند النحويين فيه معنى الشرط والمجازاة. تقول : أطع الله جلّ وعزّ يدخلك الجنة والمعنى : إن تطعه يدخلك الجنة. فأما معنى (يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ) فللعلماء فيه ثلاثة أجوبة :
قيل : هي وراثة نبوّة ، وقيل : هي وراثة حكمة ، وقيل : هي وراثة مال. فأما قولهم وراثة نبوة محال ؛ لأن النبوة لا تورث ، ولو كانت تورث لقال قائل : الناس كلّهم ينسبون إلى نوحصلىاللهعليهوسلم ، وهو نبيّ مرسل. ووراثة الحكمة والعلم مذهب حسن. وفي الحديث «العلماء ورثة الأنبياء» (٣) وأما وراثة المال فلا يمتنع وإن كان قوم قد أنكروه لقول النبيّ صلىاللهعليهوسلم : «لا نورث ما تركنا صدقة» (٤) فهذا لا حجّة فيه ؛ لأن الواحد يخبر عن نفسه بإخبار الجميع وقد يؤول هذا بمعنى لا نورث الذي تركناه صدقة لأن النبيّ صلىاللهعليهوسلم لم يخلف شيئا يورث عنه ، وإنما كان الذي له أباحه الله عزوجل إياه في حياته بقوله جلّ وعزّ (وَاعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ) [الأنفال : ٤١] لأن معنى لله جلّ وعزّ لسبل الله جلّ ثناؤه ، ومن سبل الله تبارك وتعالى ما يكون في مصلحة الرسول صلىاللهعليهوسلم ما دام حيّا فإن قيل : ففي بعض الروايات «إنّا معشر الأنبياء لا نورث ما تركنا صدقة» ففيه التأويلان جميعا أن يكون «ما» بمعنى الذي ، والآخر لا يورث من
__________________
(١) انظر البحر المحيط ٦ / ١٦٥.
(٢) انظر تيسير الداني ١٢٠.
(٣) أخرجه ابن ماجة في سننه في المقدمة ١٧ ـ حديث ٢٢٣ ، والدارمي في سننه ١ / ٩٨.
(٤) أخرجه مالك في الموطأ باب ١٢ حديث ٢٧ ، والترمذي في سننه ـ السير ٧ / ١١٢ ، وأبو داود في سننه رقم (٢٩٧٧).