والجهات ، فلما أراد الله سبحانه وتعالى أن يلطف بعباده ويهون ذلك عليهم خلق الأخشاب متخلخلة الأجزاء بالهواء ليحملها الماء ويبقى فيها من الفضاء عن نفسها ما يحمل به الأثقال وألهم العباد اتخاذها سفنا. ثم أرسل الرياح بمقادير في أوقات تسوق السفن وتسيرها من موضع إلى موضع آخر. ثم ألهم أربابها معرفة أوقات هبوبها وفترتها حتى يسيروا بالرياح التي تحملها شراعها ، وانظر إلى ما يسره سبحانه في خلقه الماء ، إذ هو جسم لطيف رقيق سيال متصل الأجزاء كأنه شيء واحد لطيف التركيب سريع القبول للتقطع حتى كأنه منفصل مسخر للتصرف قابل للاتصال والانفصال حتى يمكن سير السفن فيه ، فالعجب ممن يغفل عن نعمة الله في هذا كله. وفي بعضه متسع للفكر. وكل ذلك شواهد متظاهرة ودلائل متضافرة وآيات ناطقة بلسان حالها مفصحة عن جلال بارئها ، معربة عن كمال قدرته وعجائب حكمته ، قائلة : أما ترى تصويري وتركيبي وصفاتي زمنا واختلاف حالي وكثرة فوائدي؟ أيظن ذو لب سليم وعقل رصين أني تلونت بنفسي أو أبدعني أحد من جنس؟ بل ذلك صنع القادر القهار العزيز الجبار.
باب في حكمة خلق الماء
قال الله تبارك وتعالى : (وَجَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلا يُؤْمِنُونَ) [الأنبياء : ٣٠].
وقال سبحانه : (فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَإِلهٌ مَعَ اللهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ) [النمل : ٦٠].
انظر وفقك الله إلى ما منّ به سبحانه وتعالى على عباده بوجود الماء العذب الذي به حياة كل من على وجه الأرض من حيوان ونبات ، فلو اضطر الإنسان إلى شربة منه ومنع منها لهان عليه أن يبذل فيها جميع ما يمكنه من خزائن الدنيا ، والعجب من غفلة العباد عن هذه النعمة العظيمة ، وانظر مع شدة الحاجة إليها كيف وسع سبحانه على العباد فيها ، ولو جعلها بقدر لضاق الأمر فيها وعظم الحرج على كل من سكن الدنيا ، ثم انظر لطافة الماء ورقته حتى ينزل من الأرض ويخلخل أجزاءها فتتغذى عروق الشجر ويصعد بلطافته بواسطة حرارة الشمس إلى أعالي الشجر والنبات وهو من طبعه الهبوط ، ولما كانت الضرورة تدعو إلى شربة لإماعة الأغذية في أجواف الحيوان ليتصرف الغذاء إلى موضعه جعله لشاربه في شربه لذة عند حاجته إليه وقبول له ويجد شاربه فيه نعيما وراحة ، وجعل مزيلا للأدران عن الأبدان والأوساخ عن الثياب وغيرها ، وبالماء يبل التراب فيصلح للبناء والأعمال ، وبه يرطب كل يابس مما لا يمكن استعماله يابسا ، وبه ترق الأشربة فيسوغ شربها ، وبه تطفأ عاذبة النار إذا وقعت فيها فلا تلتهب فيه وأشرف الناس منها على ما يكرهون وبه تزول الغصة إذا أشرف صاحبها على الموت ، وبه يغتسل التعب الكل فيجد الراحة لوقته ، وبه تستقيم المطبوخات وجميع الأشياء التي لا تستعمل ولا تصلح إلا رطبة إلى غير ذلك من مآرب العباد التي لا غنى لهم عنها ، فانظر في عموم هذه النعمة وسهولة تناولها مع الغفلة عن قدرها مع شدة الحاجة