من المساكن تقيهم الحر والبرد ويتخذون مدافن لحفظ جثث الموتى ، وقد ذكر الله ذلك فقال : (وَكانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ) [الحجر : ٨٢]. ومن فوائدها أن جعلت أعلاما يستدل بها المسافرون على الطرقات في نواحي الأرض. ويستدل بها المسافرون في البحار على المين والسواحل ، ومن فوائدها أن الفئة القليلة الضعيفة الخائفة من عدوان من لا تطيقه تتخذ عليها ما يحصنهم ويؤمنهم ويمنعها ممن تخافه فتطمئن لذلك ، وانظر كيف خلق الله فيها الذهب والفضة وقدرهما بتقدير منصوص ولم يجعل ذلك ميسرا في الوجود والقدر مع سعة قدرته وشمول نعمته كما جعل هذه السعة في المياه وما ذلك إلا لما سبق في علمه لخلائقه مما هو الأصلح كما أشار إلى ذلك بقوله : (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَما نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ) [الحجر : ٢١]. فسبحان العليم الحكيم.
باب في حكمة البحر
قال الله تبارك وتعالى : (وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا) [النحل : ١٤].
اعلم رحمك الله : أن الله سبحانه وتعالى خلق البحار وأوسع فيها لعظم نفعها. فجعلها مكتنفة لأقطار الأرض التي هي قطعة من الأرض المستورة بالبحر الأعظم المحيط بجميع الأرض ، حتى أن جميع المكشوف من البراري والجبال عن الماء بالإضافة إلى الماء كربوة صغيرة في بحر عظيم. فاعلم أن ما خلق في الأرض من الحيوان بالإضافة إلى ما خلق في البحر كإضافة الأرض إلى البحر ، وقد شاهدت عجائب فيها ما هو مكشوف منها ، فتأمل عجائب البحر فإن فيه من الحيوان والجواهر والطيب أضعاف ما تشاهده على وجه الأرض ، كما أن سعته أضعاف سعة الأرض ، ولعظم سعته كان فيه من الحيوانات والدواب العظيمة ، ما إذا أبدت ظهورها على وجه البحر. ظن من يراها أنها حشاف وجبال أو جزائر ، وما من صنف من أصناف حيوان البر من إنسان وطائر وفرس وبقر وغير ذلك إلا وفي البحر أمثالها وأضعافها ، وفيه أجناس من الحيوانات لم تعهد أمثالها في البر ، وكل منها قد دبره الباري سبحانه وخلق فيه ما يحتاجه ويصلحه ، ولو استقصى ذكر ما يحتويه بعضه لاحتاج إلى وضع مجلدات ، ثم انظر كيف خلق الله اللؤلؤ مدورا في صدف تحت الماء وأثبت المرجان في جنح صخور في البحر. فقال سبحانه : (يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجانُ) [الرحمن : ٢٢]. وذلك في معرض الامتنان ، وقيل : المرجان المذكور في القرآن هو الرقيق من اللؤلؤ ، ثم قال : (فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ) [الرحمن : ٢٣]. وآلاؤه تفضله ونعمه ، ثم انظر ما يقذفه من العنبر وغيره من المنفوع ، ثم انظر إلى عجائب السفن وكيف مسكنها على وجه الماء تسير فيها العباد لطلب الأموال وتحصيل ما لهم من الأعراض وجعلها من آياته ونعمته. فقال : (وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ). [البقرة : ١٦٤]. فجعلها بتسخيره تحملهم وتحمل أثقالهم وينتقلون بها من إقليم أقاليم لا يمكن وصولهم إليها إلا بالسفن ، ولو راموا التوصل بغيرها لأدى إلى أعظم المشقات وعجزوا عن نقل ما ينقل من المنقولات إلى ما بعد البلاد