الإشارة : وسألتني عما يجب على مريد طريق الحق جلّ وعلا.
فاعلم : أن أول ما يجب عليه الاعتقاد السليم الخالي عن البدع.
الثاني : التوبة النصوح بأن لا يرجع إلى الزلات.
الثالث : إرضاء الخصماء حتى لا يبقى عليه حق المخلوق.
الرابع : تحصيل علم الشريعة بقدر ما يعمل بأوامر الله ويقف عن نواهيه ولا يجب عليه من علم الشريعة سوى ذلك ، وأما غير علم الشريعة فيكفيه أن يتعلم القدر الذي به خلاصه ونجاته ، وهذا الكلام يكون معلوما لك بنقل حكاية وردت عن المشايخ وهي أن الشبلي رحمهالله قال : إني خدمت أربعمائة أستاذ ، وقرأت عليهم أربعة آلاف حديث ، واخترت منها حديثا واحدا وعملت به وتركت باقيها لأني تأملت في هذا الحديث الواحد فرأيت فيه خلاصي ونجاتي ، وأيضا رأيت أن علم الأولين والآخرين مندرج فيه وهو قوله صلىاللهعليهوسلم : «اعمل لدنياك بقدر مقامك فيها ، واعمل لآخرتك بقدر بقائك فيها ، واعمل لله بقدر حاجتك إليه ، واعمل للنّار بقدر صبرك عليها».
يا ولدي : من هذا الحديث علم لك أنك لا تحتاج للعلم الكثير وتحصيل كثرة العلم من فروض الكفاية لا من فروض الأعيان ، وتأمل في هذه الحكاية حتى تكون متيقنا. ورد أن حاتما الأصم كان من تلامذة شقيق البلخي رحمة الله عليهما ، فقال شقيق ذات يوم : يا حاتم كم سنة أنت في صحبتي؟ قال : ثلاثا وثلاثين سنة. فقال : ما الذي حصلته من العلوم وكم فائدة أخذتها مني؟ قال : تحصلت على ثمان فوائد قال شقيق : (إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ) [البقرة : ١٥٦]. يا حاتم أنا صرفت عمري معك في تعليمك وأنت ما تحصلت مني على سوى هذه الفوائد ، فقال حاتم : يا أستاذي إن طلبت مني الصدق فما تحصلت على غير الذي قلته ولم أطلب تحصيل غيرها لأني تيقنت أني لا أتحصل على خلاصي ونجاتي في الدارين إلا بهذه الثمانية ، وإن ما سواها مستغنى عنه بها. قال شقيق : قل لي ما هذه الفوائد الثمانية؟ فقال :
الأولى : نظرت في المخلوقات ورأيت كل واحد منهم اختار محبوبا فالبعض يصحب المحب إلى مرض الموت والبعض إلى طرف القبر ، وبعد ذلك يودعونه ويرجعون ولا يدخلون معه القبر ، وتأملت لأجد محبوبا يكون لي رفيقا وأنيسا في القبر فما وجدت سوى العمل الصالح ، فلهذا اخترته وجعلته محبوبا ليكون رفيقا ومؤنسا في القبر. فقال شقيق : أحسنت يا حاتم.
الثانية : نظرت في المخلوقات فرأيت الكل أسير النفس والهوى ، وتأملت قوله تعالى : (وَأَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى) [النازعات : ٤٠. ٤١]. فعلمت يقينا أن القرآن حق وخالفت النفس الأمارة بالسوء وشددت المنطقة في المجاهدات وما أعطيتها مآربها وآمالها حتى انقادت تحت طاعة الحق قال شقيق : بارك الله فيك.
الثالثة : نظرت إلى هذا الخلق فرأيت كل واحد يسعى ويتعب في تحصيل شيء من حطام الدنيا