بسم الله الرّحمن الرّحيم
ميزان حقيقة المعرفة
أحمد الله تعالى أولا ، وأصلي على نبيّه المصطفى ثانيا ، وأقول : إخواني ، هل فيكم من يعيرني سمعه لأحدّثه بشيء من أسماري ، فقد استقبلني في أسفاري رفيق من رفقاء أهل التعليم وغافصني بالسؤال والجدال مغافصة من يتحدّى باليد البيضاء والحجة الغراء وقال لي : أراك تدّعي كمال المعرفة ، فبأيّ ميزان تزن حقيقة المعرفة؟ أبميزان الرأي والقياس ، وذلك في غاية التعارض والالتباس ولأجله ثار الخلاف بين الناس؟ أم بميزان التعليم فيلزمك اتباع الإمام المعصوم ، المعلم وما أراك تحرص على طلبه؟ فقلت : أما ميزان الرأي والقياس ، فحاش الله أن أعتصم به فإنه ميزان الشيطان. ومن زعم من أصحابي أن ذلك ميزان المعرفة. فأسأل الله تعالى أن يكفيني شره عن الدين فإنه للدين صديق جاهل ، وهو شر من عدو عاقل ولو رزق سعادة مذهب أهل التعليم ، لتعلم أوّلا الجدال من القرآن الكريم ، حيث قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ) [النحل : ١٢٥].
واعلم أن المدعو إلى الله تعالى بالحكمة قوم وبالموعظة قوم وبالمجادلة قوم ، فإن الحكمة إن غذي بها أهل الموعظة أضرت بهم كما تضر بالطفل الرضيع التغذية بلحم الطير. وأن المجادلة إن استعملت مع أهل الحكمة اشمأزوا منها كما يشمئز طبع الرجل القوي من الارتضاع بلبن الآدمي. وأن من استعمل الجدال مع أهل الجدال لا بالطريق الأحسن كما تعلم من القرآن كان كمن غذى البدوي بخبز البر وهو لم يألف إلا التمر أو البلدي بالتمر وهو لم يألف إلا البر ، وليته كانت له أسوة حسنة كما تعلم من القرآن في إبراهيم الخليل. صلوات الله عليه. حيث حاج خصمه فقال : (رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) [البقرة : ٢٥٨]. فلما رأى أن ذلك لا يناسبه وليس حسنا عنده حين قال : (أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ) [البقرة : ١٢٥]. عدل إلى الأوفق لطبعه والأقرب إلى فهمه فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) [البقرة : ٢٥٨]. ولم يركب الخليل ظهر اللجاج في تحقيق عجزه عن إحياء الموتى إذ علم أن ذلك يعسر عليه فهمه فإن ظن أن القتل إماتة من جهته وتحقيق ذلك يلائم قريحته ولا يناسب حده في البصيرة ودرجته ، ولم يكن من قصد الخليل إفناؤه بل إحياؤه ، والتغذية بالغذاء الموافق إحياء. واللجاج بالإرهاق إلى ما لا يوافق إفناء. فهذه دقائق لا تدرك إلا بنور التعليم