به إلا الماهر الحاذق في علم اللغة العارف بأصولها ، ثم بعادة العرب في الاستعمال في استعاراتها وتجوزاتها ومنهاجها في ضروب الأمثال.
الثاني : في النصّ المتروك أنه ثبت تواترا أو آحادا أو بالإجماع المجرد ، فإن ثبت تواترا فهو على شرط التواتر أم لا؟ إذ ربما يظن المستفيض تواترا ، وحدّ التواتر ما لا يمكن الشكّ فيه كالعلم بوجود الأنبياء ووجود البلاد المشهورة وغيرها ، وأنه متواتر في الأعصار كلها عصرا بعد عصر إلى زمان النبوّة ، فهل يتصور أن يكون قد نقص عدد التواتر في عصر من الأعصار؟ وشرط التواتر أن لا يحتمل ذلك كما في القرآن ، أمّا في غير القرآن فيغمض مدرك ذلك جدا ولا يستقل بإدراكه إلا الباحثون عن كتب التواريخ وأحوال القرون الماضية وكتب الأحاديث وأحوال الرجال وأغراضهم في نقل المقالات. إذ قد يوجد عدد التواتر في كل عصر ولا يحصل به العلم إذ كان يتصور أن يكون للجمع الكثير رابطة في التوافق لا سيّما بعد وقوع التعصب بين أرباب المذاهب ، ولذلك ترى الروافض يدّعون النصّ على علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، في الإمامة لتواتره عندهم ، وتواتر عند خصومهم في أشياء كثيرة خلاف ما تواتر عندهم لشدة توافق الروافض على إقامة أكاذيبهم واتّباعها.
وأمّا ما يستند إلى الإجماع فدرك ذلك من أغمض الأشياء إذ شرطه أن يجتمع أهل الحلّ والعقد في صعيد واحد ، فيتّفقوا على أمر واحد اتّفاقا بلفظ صريح ، ثم يستمروا عليه مرة عند قوم وإلى تمام انقراض العصر عند قوم ، أو يكاتبهم إمام في أقطار الأرض فيأخذ فتاويهم في زمام واحد بحيث تتفق أقوالهم اتّفاقا صريحا حتى يمتنع الرجوع عنه والخلاف بعده ، ثم النظر في أن من خالف بعده هل يكفر؟ لأنه من الناس من قال إذا جاز في ذلك الوقت أن يختلفوا فيحمل توافقهم على اتّفاق ولا يمتنع على واحد منهم أن يرجع بعد ذلك ، وهذا غامض أيضا.
الثالث : النظر في أن صاحب المقال هل تواتر عنده الخبر ، أو هل بلغه الإجماع؟ إذ كل من يولد لا تكون الأمور عنده متواترة ، ولا موضع الإجماع عنده متميز عن مواضع الخلاف ، وإنما يدرك ذلك شيئا فشيئا ، وإنما يعرف ذلك من مطالعة الكتب المصنّفة في الاختلاف والإجماع للسلف ، ثم لا يحصل العلم في ذلك بمطالعة تصنيف ولا تصنيفين إذ لا يحصل تواتر الإجماع به ، وقد صنّف أبو بكر الفارسيرحمهالله كتابا في مسائل الإجماع وأنكر عليه كثير منه وخولف في بعض المسائل ، فإذا من خالف الإجماع ولم يثبت عنده بعد فهو جاهل مخطئ وليس بمكذّب فلا يمكن تكفيره. والاستقلال بمعرفة التحقيق في هذا ليس بيسير.
الرابع : النظر في دليله الباعث له على مخالفة الظاهر أهو على شرائط البرهان أم لا؟ ومعرفة شرط البرهان لا يمكن شرحها إلا في مجلدات ، وما ذكرنا في كتاب (القسطاس المستقيم) ، وكتاب (محكّ النظر) أنموذج منه وتكل قريحة أكثر فقهاء الزمان عن قصّ شروط البرهان على الاستيفاء ، ولا بدّ من معرفة ذلك فإن البرهان إذا كان قاطعا رخص في التأويل وإن كان بعيدا. فإذا لم يكن قاطعا لم يرخص إلا في تأويل قريب سابق إلى الفهم.