بالجهات والمقادير والقرب والبعد.
الثانية : أن هذا الخيال الكثيف إذا صفي ورقق وهذب وضبط صار موازيا للمعاني العقلية محاذيا لها وغير حائل عن إشراق نور منها.
الثالثة : أن الخيال في بداية أمره محتاج إليه جدا لتنضبط له المعارف العقلية فلا تضطرب ولا تتزلزل ولا تنتشر انتشارا يخرج عن الضبط إذ تجمع المثالات الخيالية للمعارف العقلية.
وهذه الخواص الثلاثة لا تجدها في عالم الشهادة بالإضافة إلى الأنوار المبصرة إلا الزجاجة فإنها في الأصل من جوهر كثيف لكن صفي ورقق حتى صار لا يحجب نور المصباح بل يؤديه على وجهه ثم يحفظه عن الانطفاء بالرياح العاصفة والحركات العنيفة فهي أولى مثال به.
وأما الثالث : وهو الروح العقلي الذي فيه إدراك المعاني الشريفة الإلهية فلا يخفى عليك وجه تمثيلها وقد عرفت هذا مما سبق من بيان معنى كون الأنبياء سراجا منيرا.
وأما الرابع : وهو الروح الفكري فمن خاصيته أن يبتدئ من أصل واحد ثم يتشعب شعبتين ثم كل شعبة شعبين ، وهكذا إلى أن تكثر الشعب بالتقسيمات العقلية ، ثم يفضي بالآخر إلى نتائج تعود فتصير بذورا لأمثالها إذ يمكن أيضا تلقيح بعضها بالبعض فيكون مثاله من هذا العالم الشجرة ، وإذا كانت ثمراتها مادة لتضاعف المعارف وثباتها وبقائها ، فبالحري أن لا تمثل بشجرة السفرجل والتفاح والرمان وغيرها من جملة سائر الأشجار إلا بالزيتونة خاصة لأن لبّ ثمرتها هو الزيت الذي هو مادة المصابيح ويختص من بين سائر الأدهان بخاصية زيادة الإشراق ، وإذا كانت الشجرة التي تكثر ثمرتها تسمى مباركة فالتي لا تتناهى ثمرتها إلى حد محدود أولى أن تسمى. شجرة مباركة. وإذا كانت شعب الأفكار العقلية المحضة خارجة عن قبول الإضافة إلى الجهات والقرب والبعد فأولى أن تكون شرقية ولا غربية.
وأما الخامس : وهو الروح القدسي النبوي والمنسوب إلى الأولياء إذا كان في غاية الإشراق والصفاء وكانت الرّوح المفكرة منقسمة إلى ما يحتاج إلى تعليم وتنبيه ومدد من خارج حتى يستمر في أنواع المعارف ، وبعضها يكون في شدة الصفاء كأنه تنبيه من نفسه بغير مدد من خارج ، فالبحري أن يعبر عن الصافي القوي الاستعداد بأنه يكاد زيته يضيء ولو لم تمسه نار إذ في الأولياء من يكاد يشرق نوره حتى يكاد يستغني عن مدد الأنبياء. وفي الأنبياء من يكاد يستغني عن مدد الملائكة فهذا المثال موافق لهذا القسم وإذا كانت هذه الأنوار مرتبة بعضها على بعض فالحسي هو الأول وهو كالتوطئة والتمهيد للخيالي إذ لا يتصور الخيالي إلا موضوعا بعده والفكري والعقلي يكونان بعدهما ، فبالحري أن تكون الزجاجة كالمحل للمصباح والمشكاة كالمحل للزجاجة فيكون المصباح في زجاجة والزجاجة في مشكاة ، وإذا كانت هذه كلها أنوارا بعضها فوق بعض فبالحري أن تكون نورا على نور فافهم والله الموفق.