انظر إلى ناقتي في ساحة الوادي |
|
شديدة بالسّرى من تحت ميّاد |
إذا اشتكت من كلال البين أوعدها |
|
روح القدوم فتحيا عند ميعادي |
لها بوجهك نور تستضيء به |
|
وفي نوالك من أعقابها حادي |
فرحلوا من محجة الاختبار ، فاستدرجتهم بحد الاضطرار ، فهلك من كان من بلاد الحر في بلاد البرد ، ومات من كان من بلاد البرد في بلاد الحر ، وتصرفت فيهم الصواعق. وتحكمت عليهم العواصف حتى خلصت منهم شرذمة قليلة إلى جزيرة الملك ، ونزلوا بفنائه واستظلوا بجنابه ، والتمسوا من يخبر عنهم الملك وهو في أمنع حصن من حمى عزه ، فأخبر بهم فتقدم إلى بعض سكان الحضرة أن يسألهم : ما الذي حملهم على الحضور؟ فقالوا : حضرنا ليكون مليكنا ، فقيل لهم : أتعبتم أنفسكم فنحن الملك شئتم أو أبيتم ، جئتم أو ذهبتم ، لا حاجة بنا إليكم ، فلما أحسوا بالاستغناء والتعذر أيسوا وخجلوا وخابت ظنونهم فتعطلوا فلما شملتم الحيرة ، وبهرتهم العزة ، قالوا لا سبيل إلى الرجوع فقد تخاذلت القوى وأضعفنا الجوى ، فليتنا تركنا في هذه الجزيرة لنموت عن آخرنا ، وأنشؤوا يقولون هذه الأبيات :
أسكّان رامة هل من قرى |
|
فقد دفع اللّيل ضيفا قنوعا |
كفاه من الزّاد إن تمهدوا |
|
له نظرا وكلاما وسيعا |
هذا وقد شملهم الداء ، وأشرفوا على الفناء ، ولجؤوا إلى الدعاء :
ثمل نشاوى بكأس الغرام |
|
فكلّ غدا لأخيه رضيعا |
فلما عمّهم اليأس ، وضاقت بهم الأنفاس تداركتهم أنفاس الإيناس وقيل لهم : هيهات فلا سبيل إلى اليأس ، فلا ييأس من روح الله إلا القوم الخاسرون ، فإن كان كمال الغنى يوجب التعزز والرد فجمال الكرم أوجب السماحة والقبول ، فبعد أن عرفتم مقداركم في العجز عن معرفة قدرنا فحقيق بنا إيواؤكن فهو دار الكرم ومنزل النعم. فإنه يطلب المساكين الذين رحلوا عن مساكنة الحسبان ولولاه لما قال سيد الكل وسابقهم : " أحيني مسكينا" ومن استشعر عدم استحقاقه فحقيق بالملك العنقاء أن يتخذه قرينا ، فلما استأنسوا بعد أن استيأسوا ، وانتعشوا بعد أن تعبسوا ووثقوا بفيض الكرم واطمأنوا إلى درور النعم سألوا عن رفقائهم فقالوا : ما الخبر عن أقوام قطعت بهم المهامة والأودية ، أمطلول دماؤهم أم لهم دية؟ فقيل : هيهات هيهات : (وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللهِ) [النساء : ١٠٠]. اجتبتهم أيادي الاجتباء بعد أن أبادتهم سطوة الابتلاء : (وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ) [البقرة : ١٤٥]. قالوا : فالذين غرقوا في لجج البحار ، ولم يصلوا إلى الدار ولا إلى الديار بل التقمتهم لهوات التيار. قيل : هيهات (وَلا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ) [آل عمران : ١٦٩]. فالذي جاء بكم وأمهاتهم أحياهم ، والذي وكّل بكم داعية الشوق حتى استقللتم العناء والهلاك في أريحية الطلب دعاهم وحملهم وأدناهم وقربهم ، فهم