قليلا ، ولا ينشق ليدخله الريح فتثقله عن طيرانه ، وتجد في وسط الريشة عمودا غليظا يابسا مثبتا قد نسج عليه كهيئة الشعر ليمسكه بصلابته ، فلو عدم ذلك وعرضت الريشة دونه لفسخها ما يقابلها من الهواء وهي مع صلابته مجوفة ليخف عليه طيرانه.
انظر إلى الطائر الطويل الساقين والحكمة في طولهما أنه يرعى أكثر رعيه في صحصاح كأنه فوقه مراقب يتأمل ما يدب في الماء ، فإذا رأى شيئا من حاجة خطا خطوا رفيقا حتى يتناوله ، فلو كان قصير الساقين لكان حين يخطو إلى الصيد يصل بطنه إلى الماء فيهزه فيذعر منه الصيد فيبعد عنه.
انظر إلى العصافير وغيرها فإنها تطلب رزقها في طول نهارها فلا هي تفقده ولا هي تجده مجموعا محله ، وهو أمر جار على سنة الله في خلقه ، فإن صلاحهم في السعي في طلب الرزق ، فإن الطير لو وجده مسيرا أكب عليه ولا يقلع عنه حتى يمتلئ فيثقل عن الطيران ولا يستطيع رده أعني قذفه من بطنه مثل طير الماء الكبير فإنه يأكل السمك ، فإذا امتلأ منه وأزعجه مزعج تقايأه حتى يخف للطيران ، وكذلك الناس أيضا لو وجدوه بلا سعي لتفرغوا إفراغا يوقعهم في غاية الفساد.
انظر إلى هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلا ليلا مثل البوم والهام والخفاش. فإن عيشها يتيسر في الجو ، وكالبعوض والفراش وشبهه فإنها منبثة في هذا الجو ، فجعل عيشه في موضع أقرب إليه من الأرض ، ولعل نوره لا يعينه أن يلتقط من الأرض بدليل أنه لا يظهر في نور الشمس إلا مختفيا ، فألهم أن يعيش في الجو من الفراش وغيره ، انظر إلى الخفاش لما خلق بغير ريش كيف خلق له ما يقوم مقامه وجعل له فم وأسنان وكل ما في البهائم الأرضية من الولادة وغيرها وأقدره على الطيران. فأظهر سبحانه فيه أن قدرته على الطيران لا تقصر على ما خلق له الريش ولا تنحصر في نوع واحد ، لأنه خلق هذا النوع ، وخلق من السمك جنسا يطير على وجه البحر مسافة طويلة ، ثم ينزل الماء فسبحان القاضي العليم.
انظر إلى الذكر والأنثى من الحمام كيف يتعاونان على الحضانة ، فإذا احتاج أحدهما إلى قوته ناب الآخر إلى آخر وقت الحضانة ، ثم ألهمهما الحرص على الحضانة فلا يطيلان الغيبة على البيض إذا خرجا لنيل القوت حتى أنهما يجتمع في أجوافهما البراز للحرص على الرقاد ، فإذا اضطر إلى خروج البراز أخرجه دفعة واحدة. ثم انظر إلى حرص الذكر حين تحمل الأنثى بالبيض ويقرب أوان وضعها كيف يطردها وينقرها ، ولا يدعها تستقر خارجا عن الوكر خشية أن تضع البيض في غير الموضع المهيأ لوضعه. انظر كيف يزق أفراخه ويعطف عليها ما دامت محتاجة إلى الزق حتى إذا كبرت واشتدت ولقطت واستغنت عن أبويها صارت إذا تعرضت له لنيل ما اعتادت ضربها وصرفها عن نفسه واشتغل بغيرها ، ثم انظر ما خلق الله تعالى في الكواسر من شدة الطيران حتى لا يسبق له من يطلبه ، ومن قوة المخلب وجدته في المنقار والأظفار ، فكأن مخلبها مدية للقطع ، وكأن مخلب أرجلها خطاطيف يعلق فيها اللحم حتى يصل ما يحتاجه من قوتها. انظر إلى طير الماء لما جعل قوته في الماء كيف جعل فيه قوة السباحة والغطس ليأخذ من جوف