أحوال التربية والقوة عليها بالفكر والأكف والأصابع المهيأة لذلك ولغيره ، فلذلك أعطيت النهوض والاستقلال بأنفسها. ولذلك ترى فراخ بعض الطير مثل الدجاج والدراج يدرج ويلقط عقيب خروجها من البيضة ، وما كان منها ضعيفا لا نهوض له مثل فراخ الحمام واليمام جعل في الأمهات عطفا عليها ، فصارت تعين الطعام في حواصلها ، ثم تمجه في أفواه فراخها ولا يزال كذلك حتى ينهض وتستقل ، فكل أعطي من اللطف والحكمة بقسط. فسبحان المدبر الحكيم.
انظر إلى قوائم الحيوان كيف ينتقل أزواجا لتتهيأ للمشي ، فلو كانت أفرادا لم تصلح لذلك ، لأن المائي منها ينقل منها بعضه ويعينه على مشيه اعتماده على ما لم ينقله منها ، فذو القائمتين ينقل واحدة ويعتمد على الأخرى وذو الأربع ينقل اثنتين ويعتمد على اثنتين ، وذلك من خلاف لأنه لو كان ينقل قائمتين من أحد جانبيه ، ويعتمد على قائمتين من الجانب الآخر لم يثبت على الأرض كالسرير ولو كان يرفع يديه ويتبعها برجليه لفسد مشيه ، فجعل ينقل اليمنى من مقدمه على اليسرى من مؤخره ، ويعتمد الآخرين من خلاف أيضا فتثبت على الأرض ولا تسقط إذا مشى لسرعة التحاقهما فيما بين المشي والاعتماد.
أما ترى الحمار يذل للحمولة والطحن ، والفرس مردعا منها ، والبعير لا تطيقه عدة رجال لو استعصى ، وينقاد لصبي صغير ، والثور الشديد يذعن لصاحبه حتى يضع النير على عنقه ليستحرثه ، والفرس تركب ويحمل عليها السيوف والأسنة في الحروب وقاية لراكبها ، والقطيع من الغنم يرعاها صبي واحد فلو تفرقت فأخذت كل شاة منها جهة لنفورها لتعذرت رعايتها ، وربما أعجزت طالبها ، وكذلك جميع الحيوان المسخر للإنسان ، وما ذلك إلا لأنها عدمت العقل والتروي. فكان ذلك سببا لتذليلها فلم تلتو على أحد من الناس ، وإن أكدها في كثير من الأحوال. وكذلك السباع لو كانت ذوات عقل وروية لتواردت على الناس وأنكتهم نكاية شديدة عظيمة ولعسر زجرها ودفعها ، ولا سيما إذا اشتدت حاجتها في طلب قوتها ويشتد خللها ، ألا يرى إذا أحجمت عن الخلق وصارت في أماكنها خائفة تهاب مساكن الناس وتحجم عنها حتى صارت لا تظهر ولا تنبعث في طلب قوتها في غالب أحوالها إلا ليلا ، فجعلها مع شدة قوتها وعظم غذائها كالخائفة من الإنس ، بل هي ممنوعة منهم ، ولو لا ذلك لساورتهم في منازلهم وضيقت عليهم في مساكنهم.
ألا ترى الكلب وهو من بعض السباع كيف سخر في حراسة منزل صاحبه حتى صار يبذل نفسه ويترك نومه حتى لا يصل إلى صاحبه ما يؤذيه ، ثم إنه أعان صاحبه بقوة صوته حتى يتنبه من نومه فيدفع عن نفسه ويألفه حتى يصير معه على الجوع والعطش والهوان والجفاء ، فطبع على هذه الخلال لمنفعة الإنسان في الحراسة والاصطياد. ولما جعله الباري سبحانه حارسا أمده بسلاح ، وهي الأنياب والأظفار واللهث القوي ليذعر به السارق والمريب ، وليجتنب المواضع التي يحميها.
ثم انظر كيف جعل ظهر الدابة سطحا مثبتا على قوائم أربع لتمهيد الركوب والحمولة وجعل فرجها بارزا من ورائها ليتمكن الفحل من ضرابها ، إذ لو كان أسفل باطنها كالآدمي لم يتمكن