الفحل منها ، ألا ترى أنه لا يستطيع أن يأتيها كفاحا كما يأتي الرجل المرأة فتأمل هذه الحكمة والتدبير ، ولما كان فرج الفيلة تحت بطنها ، فإذا كان وقت الضراب ارتفع وبرز للفحل حتى يتمكن من إتيانها فلما لم يخلق في الموضع المخلوق في الأنعام والبهائم خلقت فيه هذه الصفة ليقوم الأمر الذي به دوام التناسل ، وذلك من عظيم العبر ، ثم انظر كيف كسيت أجساد البهائم الشعر والوبر ليقيها ذلك الحر والبرد وغيره من الآفات ، وحملت قوائمها على الأظلاف والحوافر ليقيها ذلك من الحفاء ، وما كان منها بغير ذلك جعلت له أخفاف تقوم مقام الحافر في غيره ، ولما كانت البهائم لا أذهان لها ولا أكف ولا أصابع تتهيأ للأعمال ، كفيت مؤنة ما يضر بها بأن جعلت كسوتها في خلقتها باقية عليها ما بقيت فلا تحتاج إلى استبدال بها ولا تجديد بغيرها بخلاف الآدمي ، فإنه ذو فهم وتدبير وأعضاء مهيأة لأعمال ما يقترحه وله في إشغاله بذلك صلاح وفيه حكمة ، فإنه خلق على قابلة لفعل الخير والشر وهو إلى فعل الشر أميل إلى فعل الخير ، فجعلت الأسباب التي يحصل بها ما هو محتاج إليه ليشتغل بها عما فيه فساده وهلاك دينه فإنه لو أعطي الكفاية في كل أحواله أهلكه الأشر والبطر ، وكان من أعظم الحيوانات فسادا في الأرض ولتصرف بعقله الذي هو مخلوق لينال به السعادة إلى ما فيه شقاوته ، ثم إن الآدمي مكرم يتخير من ضروب الملابس ما شاء ، فيلبس منها ما شاء ويخلع منها ما شاء ويتزين بها ويتجمل ويتلذذ منها بما يشاء ويكمل بها زينته وجماله وبهاءه في عين من يصحبه ويحب قربه ويطيب بذلك رائحته وينعش نفسه ، وهذا من باب النعمة عليه والكرامة له بخلاف البهائم فإنها غنية عن هذا كله ، انظر فيما ألهم الله البهائم والوحوش في البراري ، فإنها تواري أنفسها كما يواري الناس موتاهم فما أحس منها بالموت توارى بنفسه إلى موضع يحتجب فيه حتى يموت وإلا فأين جثث السباع والوحوش وغيرها ، فإنك لو طلبت منها شيئا لم تجده وليست قليلة فيخفى أمرها لقلتها ، بل لو قال قائل إنها أكثر من الإنس لم يبعد ، لأن الصحارى قد امتلأت من سباع وضباع وبقر وحمير ووعل وإبل وخنازير وذئاب وضروب من الهوام والحشرات وأصناف من الطير وغير ذلك مما لا يحصى عدده ، وهذه الأصناف في كل يوم يخلق منها ويموت منها ولا يرى لها رمم موجودة ، والذي أجرى الله به عادتها أن تكون في أماكنها ، فإذا أحست بالموت أتت إلى مواضعها خفية فتموت فيها ، فانظر هذا الأمر الذي ألهمت له هذه الأصناف في دفن جثثها بما فطرت عليه وشخص لبني آدم بالفكر والتروي.
تأمل الدواب كيف خلق أعينها شاخصة أمامها لتنظر ما بين يديها فلا تصدم حائطا ولا تتردى في حفرة ، وإذا قربت من ذلك نفرت منه وأبعدت نفسها عنه وهي جاهلة بعاقبة ما يلحقها منه ، أليس الذي جبلها على ذلك أراد صلاحها وسلامتها لينتفع بها؟ ثم انظر إلى فمها مشوقا إلى أسفل الخطم لتتمكن من نيل العلف والرعي. ولو جعل كفم الإنسان لم تستطع أن تتناول شيئا من الأرض وأعينت بالحجفلة لتقصم بها ما قرب منها ، فألهمت قصم ما فيه صلاحها وترك ما لا غذاء لها فيه ولا صلاح ، انظر ما