كان من البهائم كيف يمز الماء في شربه مزا ، وكيف خلقت فيه شعرات حول فمه يدفع بها ما في شربها ما كان على وجه الماء من القذى والحشيش ويحركها تحريكا يدفع به الكدر عن الماء حتى يشرب صفوه ، فتقوم لها هذه الشعرات مقام فم الإنسان ، ثم انظر إلى ذنب البهيمة وحكمته ، وكيف خلق كأنه غطاء في طرفه شعر ، فمن منافعه أنه بمنزلة الغطاء على فرجها ودبرها ليسترها ومنها أن ما بين دبرها وطرق بطنها أبدا يكون فيه وضر يجتمع بسببه الذباب والبعوض ويجتمع أيضا ، على مؤخرها ، فأعينت على دفع ذلك بتحريك ذنبها ، فصار كأنه مدية في يدها تذب بها وتطرد عنها ما يضرّ بها ، ثم إنها تعطف برأسها فتطرد به ما في مقدمها من الذباب أيضا ثم إن الدابة أيضا أعينت بحركة مختصة ، وذلك أن الذباب إذا وقع عليها في مواضع بعيدة من رأسها وذنبها حركت ذلك الموضع من جلدها تحريكا تطرد به الذباب وغيره عنها. وذلك من عجيب الحكمة فيما لا ينتفع بيدين.
ومن الحكمة فيه أيضا أن الدابة تستريح بتحريكه يمنة ويسرة لأنها لما كان قيامها على أربع اشتغلت يداها أيضا بالحمل لبدنها والتصرف ، فجعل لها في تحريك ذنبها منفعة وراحة ، وأعينت بسرعة حركته حتى لا يطول ألمها بما يعرض لها ، ومن الحكمة فيه أن البهيمة إذا وقعت في بركة أو مهواة أو وحلت في طين أو غيره. فلا تجد شيئا أهون على نهوضها وخلاصها منه من الرفع بذنبها ، ومن ذلك إذا خيف على حملها أن ينقلب على رقبتها عند هبوطها من مكان مصبوب أو ليسبقها رأسها فتنكب على وجهها ، فيكون مسكها بذنبها في هذه المواضع يعد لها ويعينها على اعتدال سيرها وسلامتها مما خيف منه عليها إلى غير ذلك من مصالح لا يعلمها إلا الحكيم العليم.
انظر إلى مشفر الفيل ، وما فيه الحكمة والتدبير فإنه يقوم مقام اليد في تناول العلف وإيصاله إلى فمه ، فلو لا ذلك ما استطاع أن يتناول شيئا في الأرض إذ لم يجعل له عنق يمده كسائر الأنعام ، فلما عدم العنق في هذا الخلق جعل له هذا الخرطوم يمده فيتناول به ما يحتاجه فسبحان اللطيف الخبير ، انظر كيف جعل هذا الخرطوم وعاء يحمل فيه الماء إلى فمه ومنخرا يتنفس منه وآلة يحمل بها ما أراد على ظهره أو يناول من هو راكب عليه ، انظر إلى خلق الزرافة لما كان منشؤها في رياض شاهقة خلق لها عنقا طويلا لتدرك قوتها من تلك الأشجار.
تأمل في خلق الثعلب فإنه إذا حفر له بيتا في الأرض جعل له فوهتين إحداهما : ينصرف منها ، والأخرى : يهرب منها إن طلب ويرفق مواضع في الأرض في بيته ، فإن طلب من المواضع المفتوحة ضرب برأسه في المواضع التي رفقها ، فخرج من خير المنافذ وهي المواضع التي تحتها ، انظر ما خلق الله تبارك وتعالى في جبلته لصيانة نفسه ، وجملة القول في الحيوان : أن الله تبارك وتعالى خلقه مختلف الطباع والخلق ، فما كان منه ينتفع الناس بأكله خلق فيه الانقياد والتذلل وجعل قوته النبات ، وما جعل منه للحمل جعله هادئ الطبع قليل الغضب منقادا منفعلا على صور يتهيأ منه الحمل ، وما كان منه ذا غضب وشر إلا أنه قابل للتنظيم إذا نظم خلق فيه هذا القبول للتعليم ليستعين العباد بصيده وحراسته وأعين بآلات قد تقدم ذكرها ، ومن جملة ذلك