وكلما ازداد عمقه ازدادت تلك الدائرة ، فإذا ألقينا حجرا آخر قبل تمام هذه الدائرة لم يلزم أن تكون حركة الماء في النوبة الثانية كحركته في النوبة الأولى ، لأن الماء في الأولى ساكن وفي الأخرى متحرك ، فإن تشكيل الحجر للمتحرك خلاف تشكيله للساكن ، فتخلف الأشكال مع تساوي الأسباب لامتزاج أثر السابق باللاحق. وهب أن تشكلا للمتحرك وافق شكلا آخر فكيف يكون مقومات الثوابت والاوجات وسائر الجواهر على مثل ما كان عليه في التشكل الأول ، فلا يستحيل أن يكون في التقدير الأزلي للأدوار دور يخالف هذه الأدوار يقتضي نمطا من نظام الوجود والإبداع على خلاف النمط المعهود ، ولا يستحيل أن يكون ذلك النمط بديعا لم يسبق له نظير ، ولا أن يكون حكمه باقيا لا يلحقه مثل الدور السابق المنسوخ. فيبقى النمط الحاصل من الإبداع مستمرا في جنسه ، وإن كانت تتبدل أحواله فيكون ميعاد ميعاد القيامة الكبرى حصول ذلك التشكل الغريب من الأسباب العالمية ، فيكون سببا كليا جامعا لجميع الأرواح ، فيعم حكمها كافة الأرواح فتكون قيامة عامة مخصوصة بوقت لا تتسع القوة البشرية لمعرفتها. أعني لمعرفة وقتها ولا الأنبياء المرسلون عليهم الصلاة والسلام ، فإن الأنبياء أيضا يكشف لهم ما يكشف بقدر احتمالهم وقبولهم ، فإذا لم يقم برهان كلامي ولا فلسفي على استحالته وجب التصديق به إذا ورد الشرع به تشريحا لا يتطرق إليه الاحتمال والتأويل ، وقد صرح الشرع به تصريحا ضروريا يجب الأيمان به ولا يمكن تأويله ، وكما جاز أن يحدث دور بشكل يحدث بسببه أنواع من الحيوانات لم يعهد مثلها ، فكذلك يجب أن يحدث زمان يحشر فيه الموتى وتجمع أجزاؤهم وتعود إلى أشباحهم أرواحهم ، فكما أن الجاهل يتأمل فصل الشتاء ويتعجب إن يحصل فيه نبات وثمال إذا ورد فصل الربيع عاين ذلك وبين زماني الفصلين بعد في هذه الدار ، فكذلك بين زمان النشأة الأولى التي تحصل للإنسان بالتناسل ، وزمان النشأة الأخرى التي تحصل للإنسان بالإحياء والإعادة بعيد لا يقاس أحدهما على الثاني.
فصل في إعادة النفس إلى البدن
عود النفس إلى البدن بعد مفارقتها عنه في القيامة أمر ممكن غير مستحيل ، ولا ينبغي أن يتعجب منه ، بل التعجب من تعلق النفس بالبدن في أول الأمر أظهر من تعجب عودها إليه بعد المفارقة ، وتأثير النفس في البدن تأثير فعل وتسخير. ولا برهان على استحالة عود هذا وصيرورة هذا البدن مستعدا مرة أخرى لقبول تأثيره وتسخيره. بقي هاهنا تعجب من ضعفاء العقول ، وهو أن ذلك الاستعداد الإنساني يحصل قليلا قليلا بالتدريج من نطفة في قرار مكين ثم من علقة إلى تمام الخلقة ، وإذا لم يكن كذلك لا يقبل استعداد قبول التسخير ودفع هذا التعجب. إنا قد بينا أن ما هو ممكن بالتدريج إنما هو التوالد ، وأما التولد فلا يكون بالتدرج بل حدوثه ممكن دفعة واحدة. ألا ترى أن الفأر الذي يتوالد يكون بالتدريج وباجتماع الذكر والأنثى وبعد حمل وسفاد ، وأن التولدي منه يكون دفعة فإنه لم يوجد قط مدر ولا تراب بعضه