فيه ، فإن التعجب من ذلك أكثر وأوفر من التعجب من النشأة الأخرى ، والأصل أن كل شيء لم يشاهده الإنسان ولم يعرف سببه يحصل له منه التعجب ، والتعجب هيئة تحصل للإنسان عند مشاهدة شيء لم يشاهده قبل ذلك أو سماع شيء لم يعرف سببه ولم يسمعه قبل ذلك.
فصل
تعلق النفس بالبدن كالحجاب لها عن حقائق الأمور ، وبالموت ينكشف الغطاء كما قال الله تعالى: (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ) [ص : ٢٢]. ومما يكشف له تأثير أعماله مما يقربه إلى الله تعالى ويبعده وهي مقادير تلك الآثار ، وأن بعضها أشد تأثيرا من البعض ، ولا يمتنع في قدرة الله تعالى إن يجري سببا يعرف الخلق في لحظة واحدة مقادير الأعمال بالإضافة إلى تأثيراتها في التقريب والإبعاد ، فحد الميزان ما يتميز به الزيادة من النقصان ومثاله في العالم المحسوس مختلف ، فمنه الميزان المعروف ، ومنه القبان للأثقال ، والاسطرلاب لحركات الفلك ، والأوقات والمسطرة للمقادير ، والخطوط والعروض لمقادير حركات الأصوات ، فالميزان الحقيقي وإذا مثله الله عزوجل للحواس مثله بما شاء من هذه الأمثلة أو غيرها ، فحقيقة الميزان وحده موجودة في جميع ذلك وهو ما يعرف به الزيادة من النقصان وصورته تكون مقدرة للحس عند التشكيل ، وللخيال عند التمثيل ، والله تعالى أعلم مما يقدره من صنوف التشكيلات والتصديق بجميع ذلك واجب.
فصل في الحساب
والحساب جمع متفرقات المقادير وتصريف مبلغها وما من إنسان إلا وله أعمال متفرقة نافعة وضارة ومقربة ومبعدة لا تعرف فذلكتها وقد لا تحصر آحاد متفرقاتها ، فإذا حصرت المتفرقات وجمع مبلغها كان حسابا ، فإن كان في قدرة الله تعالى أن يكشف في لحظة واحدة للعالمين متفرقات أعمالهم ومبلغ آثارها فهو أسرع الحاسبين ، ومعلوم أن في قدرته ذلك فإذن هو أسرع الحاسبين قطعا. وسئل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه : كيف يحاسب الله الخلق في لحظة من غير تشويش ولا غلط؟ فقال رضي الله عنه : كما يرزقهم مع سائر الحيوانات بلا تشويش ولا غلط.
فصل في الصراط
الصراط حق. وما قيل إنه مثل الشعرة في الدقة ، فهو ظلم في وصفه ، بل أدق من الشعر ، بل لا مناسبة بين دقته ودقة الشعر ، وحدته وحدة السيف ، كما لا مناسبة في الدقة بين الخط الهندسي الفاصل بين الظل والشمس الذي ليس من الظل ولا من الشمس ، وبين دقة الشعر ودقة الصراط مثل دقة الخط الهندسي الذي لا عرض له أصلا لأنه على مثال الصراط المستقيم ، والصراط المستقيم عبارة عن الوسط الحقيقي بين الأخلاق المتضادة ، لذلك قد بيّن الله بهذا الدعاء في سورة الفاتحة حيث قال : (اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ) [الفاتحة : ٦]. وقال في حق المصطفى صلوات الله عليه : (وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ) [الشورى : ٥٢]. وقال