وحجبت لئلا يتمكن الطير منها فيصيب بها ، وإن كان يناله منها قوته إلا أن حاجة الآدمي أشد وأولى. تأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات فإنها لما كانت محتاجة إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوانات ولم يخلق فيها حركات تنبعث بها ولا آلات توصل إليها غذاءها جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتجذب الماء من الأرض ، فتتغذى بها أصولها وما علا منها من الأغصان والأوراق والثمار ، فصارت الأرض كالأم المربية لها ، وصارت أصولها وعروقها كالأفواه الملتقمة لها ، وكأنها ترضع لتبلغ منها الغذاء كما يرضع أصناف الحيوان من أمهاتها. ألم تر إلى عمد الخيم والفسطاط كيف يمتد بالأطناب من كل جانب ليثبت منصته فلا يسقط ولا يميل ، فهكذا أمر النبات كله له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كل جانب وتمسكه وتقيمه ، ولو لا ذلك لم تثبت الأشجار العالية ، لا سيما في الرياح العاصفة. فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة واقتدى الناس في أعمالهم بحكمة الله في مصنوعاته ، وتأمل خلق الورق فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة ، فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضها ، ومنها دقائق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجا دقيقا عجيبا ، لو كان مما يصنع بأيدي البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة إلا في مدة طويلة ، وكان يحتاج فيه إلى آلات وطول علاج. فانظر كيف يخرج منه في المدة القليلة ما يملأ السهل والجبال وبقاع الأرض بغير آلة ولا حركة إلا قدرة البارئ وإرادته وحكمه ، ثم انظر تلك العروق كيف تتخلل الورق بأسره لتسقيه وتوصل إليه المادة وهي بمنزلة العروق المبثوثة في بدن الإنسان لتوصل الغذاء إلى كل عضو منه ، وأما ما غلظ من العروق فإنها تمسك الورق بصلابتها وقوتها لئلا ينتهك ويتمزق.
ثم انظر إلى العجم والنوى والعلة فيه ، فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقامه إذا عدم ما يغرس أو عاقه سبب ، فصار ذلك كالشيء النفيس الذي يخزن في مواضع شتى لعظم الحاجة إليه ، فإن حدث على الذي في بعض المواضع من حادث وجد منه في موضع آخر ، ثم في صلابته يمسك رخاوة الثمار ورقتها ، ولولاه لسرحت وسرح الفساد إليها قبل إدراكها ، وفي بعضها حب يؤكل وينتفع بدهنه ويستعمل في مصالح. ثم انظر إلى خلق الله تعالى فوق النواة من الرطب وفوق العجم من العنبة والهيئة التي تخرج عليها ، وما في ذلك من الطعم واللذة والاستمتاع للعباد ، ثم تأمل خلق الحب والنوى وما أودع فيه من قوة وعجائب كالمودع في الماء الذي يخلق منه الحيوان وهو سر لا يعلم حقيقته إلا الله سبحانه وما علم من ذلك يطول شرحه.
ثم انظر كيف حفظ الحب والنوى بصلابة وخلقت في ظاهره قشرة حتى أنه بسبب ذلك إن سقط في تراب أو غيره لا يفسد سريعا ، وإذا ادخر لوقت الزراعة بقي محفوظا ، فصار قشره الخارج حافظا لما في باطنه بمنزلة شيء نفيس عمل له صندوق يحفظه ، وعند ما يوضع في الأرض ويسقى يخرج منه عرق في النوى وغصن في الهواء ، وكلما ازداد غصنا ازداد عرقا تتقوى به أصل الشجرة وينصرف الغذاء منه إلى الغصن فهي كذلك إذ يتم غصنها قوتها فتكون الفروع