الأشجار ، فإنك ترى فيها من أسباب الحفظ ولطائف الصنع ما يعتبر به كل ذي فهم ولب ، فمن ذلك خلق الرمانة وما فيها من غرائب التدبير ، فإنك ترى فيها شحما مركوما في نواصيها غليظ الأسفل رقيق الأعلى كأمثال التلال في تلوينه أو البناء الذي وسع أسفله للاستقرار ورقق أعلاه حتى صار مرصوفا رصفا كأنه منضد بالأيدي ، بل تعجز الأيدي عن ذلك التداخل الذي نظم حبها في الشحم المذكور ، وتراه مقسوما أقساما ، وكل قسم منه مقسوم بلفائف رقيقة منسوجة أعجب نسج وألطفه لتحجب حبها حتى لا يلتقي بعضه ببعض فيفسد ولا يلحق البلوغ والنهاية ، وعليها قشر غليظ يجمع ذلك كله ، ومن حكمة هذه الصنعة أن حبها لو كان حشوها منه صرفا بغير حواجز لم يمد بعضه بعضا في الغذاء ، فجعل ذلك الشحم خلاله ليمده بالغذاء ، ألا ترى أصول الحب كيف هي مركوزة في ذلك الشحم ممدودة منه بعروق رقاق توصل إلى الحب غذاءها ، وإلى حبة حبة غذاءها ومن رقها وضعفها لا تكدر على الأقل ولا تعرف بها ، ثم انظر ما يصير من الحلاوة في الحب من أصول مرة شديدة المرارة قابضة ، ثم تلك اللفائف على الحب تمسكه على الاضطراب وتحفظه ، ثم حفظ الجميع وغشاه بقشر صلب شديد القبض والمرارة وقاية له من الآفات ، فإن هذا النوع من النبات للعباد به انتفاعات وهو ما بين غذاء ودواء وتدعو الحاجة إليه في غير زمانه الذي يجنى فيه من شجرة فحفظ على هذه الصفة لذلك.
انظر إلى عود الرمانة الذي هي متعلقة به كيف خلق مثبتا متقنا حتى تستكمل خلقها فلا تسقط قبل بلوغها الغاية المحتاج إليها وهي من الثمرة المختصة بالإنسان دون غيره من الحيوان. انظر إلى النبات الممتد على وجه الأرض مثل البطيخ واليقطين وما أشبه ذلك وما فيه من التدبير ، فإنه لما كان عود هذا النبات رقيقا ريانا ذا احتياج إلى الماء لا ينبت إلا به جعل ما ينبت به منبسطا على وجه الأرض ، فلو كان منتصبا قائما كغيره من الشجر لما استطاع حمل هذه الثمار مع طراوة عودها ولينها ، فكانت تسقط قبل بلوغها وبلوغ غاياتها ، فهي تمتد على وجه الأرض لبلوغ الغاية وتحمل الأرض عودها وأصل الشجرة والسقي بمدها. وانظر هذه الأصناف كيف لا تخلق إلا في الزمن الصالح لها ولمن تناولها ، فهي له معونة عند الحاجة إليها ولو أتت في زمان البرد لنفرت النفوس عنها ولأضرت بأكثر من يأكلها.
ثم انظر إلى النخل لما كانت الأنثى منه تحتاج إلى التلقيح خلق فيها الذكر الذي تحتاج إليه لذلك حتى صار الذكر في النخل كأنه الذكر في الحيوان ، وذلك ليتم خلق ما بزراعته تحفظ أصول هذا النوع. ثم انظر ما في النبات من العقاقير النافعة البديعة ، فواحد يفور في البدن فيستخرج الفضلات الغليظة ، وآخر لإخراج المرة السوداء ، وآخر للبلغم ، وآخر للصفراء ، وآخر لتصريف الريح ، وآخر لشد البطن في الطبيعة ، وآخر للإسهال ، وآخر للقيء ، وآخر لروائحه ، وآخر للمرضى والضعفاء ، وكل ذلك من الماء ، فسبحان من دبر ملكه بأحسن التدبير.