فلانا أعرب حين بين ، وفلان بيض قصيدته ورسالته ، فأين آثار تبيين حجتك إذا قطع الدليل والبرهان؟ وإن قلت الجدال المتشابكة أو جدال الجبل حين حاستك بعضه ببعض ، فما ينفعك هذه المقالة اللغوية واللفظات الاصطلاحية إذا كان متن دليلك مقطوعا بالنقض والعلة الداخلة عليه من الخصوم. فلا بد من جواب فخور يفهم الخاطر ، فما هذا مقام أو مقال يحتمل المغالطة والمدافعة ، فإن كان جوابك من غير السؤال فهو مداخله ضعيفة به ، وإن كان من نفس المسألة فلا بد من برهان قاطع غير منقوض ، فالمنقوض معلول لا يصلح أن يكون جوابا. وإذا سئلت عن الحجة والمعرفة بالشيء فإما أن يكون معرفتك برهان قاطع نقلا أو عقلا غير منقوض ، فمشّه وكن به مستدلا ، فالمعرفة بالشيء إما بنفسه أو بغيره ، فإن كان بنفسه فهو البرهان المقطوع به إذا لم يكن سبيل البعض داخلا عليه ، فالبراهين التصديقية كان برهانها تصديقها مثل ما تقول : هذا رجل ، فلا تفتقر أن تبرهنه ، وهذا ليل أو نهار ، أو عشرة أكثر من خمسة ، فهذا لا يطرد عليه معنى في بعض ولا ينعكس ، لأن تصديقه ينقسم ولا يفتقر إلى برهان ، فأت بدليل على مثل هذا المعنى! فقد علمت أن هذه العلة لا تفارق معلولها ، وأن المعل لا يكون لجهل أو لفهم أو قبحه ، وإنما يكون براهين تصديقية أو براهين معلولة أو منقولة غير منقوضة ، فإذا دخل النقض أزال حكم الدليل ، فهذا معنى قولنا قطع الدليل. ثم تستدلون بأخبار الآحاد والمراسيل وقد علمتم بالملزم فيها من الطعن والتشكيك ، ثم المتواتر بنفسه عندكم فهو دليل ، ولا يعتبرون فيه العلم ، إذ هممكم إنما هو وقائع وخصومات وإظهار مناقشات في رياسات ، والباحث عن إظهار الحق قليل.
المقالة السادسة عشرة
في كتاب الطهارة وآدابها وأسبابها
واعلم أن الطهارة فرض ظاهرا أو باطنا ، فأما الباطن فطهارة القلب من كل شيء سوى الله ، فإذا وجدت من القلب هذه الطهارة الصافية الكاملة صار القلب محلّا للفيض الرباني والعلوم اللدنية الإلهية ، وكشف أغطية الأسرار عن نير نهار القدس ، فانبجست عيون الكرامات ، وترقى العقل من حضيض الشهوات إلى سماء الخاصة ومعارفها ، ثم إلى سماء كشف أسرار الربوبية ، ثم يترقى العقل الجوهر الكامل إلى كرسي المراقبة ، ثم إلى عرش حضرة القدس ، ثم تقدم له موائد فوائد تحف المحبة فيشرق أنوارها على هياكل الطباع المظلمة ، ويجري قلم التوحيد فوق لوح التمجيد بطريق التأييد ، فمنهم شقيّ وسعيد. وإذا كشفت لك هذه المملكة الباطنة لم تلتفت على الموت ، فإن الموت هو جامع بين الأحباب ، وفي الطباع المتنافرات مفرق بينهم (فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) [البقرة : ٩٤] وقد سمعت النظم فيه شعرا :
سهّل عليك الّذي تلقاه من ألم |
|
إن كان شملك بالأحباب يجتمع |
فإذا طلعت عليك كاسات الوصال في دار التخلية ، وهبت ريح النسيم ، ونادى منادي التقديم (وَفِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ) [المطففين : ٢٦] فعند ذلك تصير روحك ملكا يضيء ، ولو لم تمسسه نار.