فلو كانت براهين فهي حجب نور ، ولو كانت شبها فهي حجب ظلمة.
والدليل على ذلك قوله : لأحرقت سبحات وجهه فإنها لو كانت جسمانية لاحترق وجهه بأولاها أو بآحادها ولم يشترط في الإحراق إلا مجموعها. والبرهان الحق على أن البارئ سبحانه لا يصح أن يكون محجوبا لعلتين :
إحداهما : أن الحجاب ليس إلا للأجسام والبارئ تعالى ليس بجسم.
والثانية : أن المحجوب يجب أن يكون في جهة والبارئ سبحانه لا جهة له بوجه. وإنما أرادصلىاللهعليهوسلم أن هذا السالك الباحث لو انكشف إليه هذه الموانع المانعة من تحقيق معرفة معبوده لأحرقت الأشياء التي استدل بها ما انتهى إليه بصره ، فعبر بالاحتراق عن الاضمحلال فهذا تحقيق هذه العبارات. ومضمون هذه الإشارات ، والعالم هو السلم إلى معرفة البارئ سبحانه ، فهو الخط الإلهي المكتوب المودع المعاني الإلهية ، والعقلاء على اختلاف طبقاتهم يقرؤونه ومعنى قراءتهم له فهمهم للحكمة التي وضع دالا عليها. قال تعالى : (قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [يونس : ١٠١]. وقال سبحانه : (سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ) [فصلت : ٥٣]. وقال تعالى : (أَفِي اللهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) [إبراهيم : ١٠]. ولما كان الإنسان محجوبا مركبا من مواد مختلفة متضادة وكان محجوبا عن عالم الغيب ، ونعني بعالم الغيب كل غائب عن إدراك الحس ولم يتوصل إلى معرفته إلا بجد وتيقظ وقوة مفكرة خصته الحكمة الإلهية بأن جعلته دفترا جامعا مدبجا فيكون في ذلك فائدتان :
إحداهما : الإنعام عليه بإلزام أمور عجيبة تكون له مفاتيح لما غاب عنه كما قال تعالى : (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلا تُبْصِرُونَ) [الذاريات : ٢١]. فهو يستدل بما شاهد في نفسه على ما لم يشاهد.
ولما كانت الأدلة والحجج منقسمة إلى الأتم والأنقص وكان طريق البرهان وتأليفه على الشرائط الصحيحة وكانت الأدلة متعذرة على العوام ، وكان الإقناع وقياس التمثيل والاستقراء أقرب إلى أكثر الأذهان خصت الحكمة الإلهية الصور الإنسانية بضروب من عجائب العوالم وغرائبها المستدل بها فيكون ضربا من التمثيل والاستقراء الذي يقاس به الشاهد على الغائب وأكثر ما عاملت الأنبياء عليهمالسلام الخلق بهذا النوع من أصناف الحجة لأن مقابلتهم بغير هذا الطريق صعب قال تعالى : (ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) [النحل : ١٢٥]. ولذلك جعلنا هذا المعراج أولا وأحلنا العوام على الاقتصار على تعلمه ، وذكرنا انقسامهم إلى طبقتين فيما تقدم فهذه إحدى فوائده وحكمه.
الحكمة الثانية : ولها فائدتان. إحداهما : يستحق بها العقوبة. وبالثانية : المثوبة.
فالأولى : استعماله لما يثق به وهو محسوس عنده مشاهد فشرطه أن لا يتعداه ولا يحمل أكثر مما يحتمل ، فمن البر ما يكون عقوقا والشيء متى جاوز حده انعكس إلى ضده.