فإذا احتضرت نفسه إلى القلب خرس لسانه عن النطق ، وما أحد ينطق والنفس مجموعة في صدره لوجهين : أحدهما أن الأمر عظيم قد ضاق صدره بالنفس المجتمعة فيه ـ ألا ترى أن الإنسان إذا أصابته ضربة في صدره بقي مدهوشا ، فتارة يتكلم وتارة لا يقدر على الكلام ؛ وكل مطعون يطعن بصوت إلا مطعون الصدر فإنه يخر ميتا من غير تصويت؟. وأما الآخر فإن السر الذي فيه حركة الصوت المندفعة من الحرارة الغريزية قد ذهب فصار نفسه متغير الحالتين : حال الارتفاع والبرودة ، لأنه فقد الحرارة ، فعند هذا الحال تختلف أحوال الموتى ، فمنهم من يطعنه الملك حينئذ بحربة مسمومة قد سقيت سمّا من نار ، فتفر النفس وتفيض خارجة فيأخذها في يده ترعد أشبه شيء بالزئبق على قدر النحلة شخصا إنسانيا ، ثم الملائكة تناولها الزبانية ، ومن الموتى من تحذف نفسه رويدا حتى تنحصر في الحنجرة وليس يبقى في الحنجرة إلا شعبة متصلة بالقلب ، فحينئذ يطعنها بتلك الحربة الموصوفة ، فإن النفس لا تفارق القلب حتى يطعن. وسر تلك الحربة أنها تغمس في بحر الموت ، فإذا وضعت على القلب صار سرها في سائر الجسد كالسم الناقع ، لأن سر الحياة إنما هو موضوع في القلب ويؤثر سره فيه عند النشأة الأولى ، وقد قال بعض المتكلمين : الحياة غير النفس ، ومعناها اختلاط النفس بالجسد. وعند استقرار النفس في الترقي والارتفاع يعرض عليه الفتن ، وذلك أن إبليس قد أنفذ أعوانه إلى هذا الإنسان خاصة ، واستعملهم عليه ، ووكلهم به ، فيأتون المرء وهو في تلك الحال فيتمثلون له في صورة من سلف من الأحباء الميتين الباغين له النصح في دار الدنيا كالأب والأم والأخ والأخت والصديق الحميم ، فيقول له : أنت تموت يا فلان ونحن قد سبقناك في هذا الشأن ، فمت يهوديا فهو الدين المقبول عند الله تعالى! فإن انصرفوا عنه وأبى جاءه آخرون وقالوا له : مت نصرانيا فإنه دين المسيح ونسخ به دين موسى! ويذكرون له عقائد كل ملة. فعند ذلك يزيغ الله من يريد زيغه ، وهو معنى قوله تعالى : (رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : ٨]. أي لا تزغ قلوبنا عند الموت وقد هديتنا من قبل هذا إلى الإيمان. فإذا أراد الله تعالى بعبده هداية وتثبيتا جاءته الرحمة ، وقيل هو جبريل عليهالسلام ، فيطرد عنه الشيطان ويمسح الشحوب عن وجهه فيتبسم الميت ضاحكا لا محالة. وكثير من يرى مبتسما في هذه الحالة فرحا مسرورا بالبشير الذي جاء رحمة الله من تعالى يقول : يا فلان ما تعرفني؟ أنا جبريل وهؤلاء أعداؤك من الشياطين ، مت على الملة الحنيفية والشريعة المحمدية! فما شيء أحب إلى الإنسان وأفرح منه بذلك الملك ، وهو قوله تعالى : (وَهَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ) [آل عمران : ٨]. ثم الموت على الفطرة. ومن الناس من يطعن وهو قائم يصلي ، أو نائم ، أو مار في بعض أشغاله ، أو منعكف على اللهو ، وهو البغتة ، فتقبض نفسه مرة واحدة. ومن الناس من إذا بلغت نفسه الحلقوم كشف له عن أهله السابقين ، وأحدق به جيرانه من الموتى ، وحينئذ يكون له خوار يسمعه كل شيء إلا