ذلك كان رسول الله صلىاللهعليهوسلم لا يمر به جنازة إلا قام لها قياما. وفي الصحيح أنه صلىاللهعليهوسلم مرت به جنازة فقام لها تعظيما فقيل : يا رسول الله إنه يهودي ، فقال : أليست نفسا؟ وإنما كان يفعله لأنه كشف له عن أسرار الملكوت ، فكان يسر بالميت إذا مر به لأنه من أهل فهمه ومعانيه. فإذا دخل الميت القبر وأهيل عليه التراب ناداه القبر كنت تفرح على ظهري والآن تأكلك الديدان في بطني ، ويكثر عليه مثل هذه الألفاظ الموبخة حتى يسوّى عليه التراب ، ثم يناديه ملك يقال له رومان. وقد روي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله ما أول ما يلقى الميت إذا دخل قبره؟ قال : يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إلا أنت ، فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول : يا عبد الله اكتب عملك!فيقول : ليس معي دواة ولا قرطاس ، فيقول : هيهات! كفك قرطاسك ، ومدادك ريقك ، وقلمك إصبعك ، فيقطع قطعة من كفنه ثم يجعل العبد يكتب ، وإن كان غير كاتب في الدنيا فيكتب حينئذ حسناته وسيئاته كيوم واحد ، ثم يطوي الملك الرقعة ويعلقها في عنقه. ثم قرأ رسول اللهصلىاللهعليهوسلم (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣]. فإذا فرغ من ذلك دخل عليه فتّانا القبر وهما ملكان أسودان يخرقان الأرض بأنيابهما ، لهما شعور مسدولة يجرانها على الأرض ، كلامهما كالرعد القاصف ، وأعينهما كالبرق الخاطف ، ونفسهما كالريح العاصف ، وبيد كل واحد منهما مقمع من حديد لو اجتمع عليه الثقلان ما رفعاه ، ولو ضرب به أعظم جبل لجعله دكا ، فإذا أبصرتهما النفس ارتعدت وولت هاربة ، فتدخل في منخر الميت ، فيحيا الميت من الصدر ويكون كهيئته عند الغرغرة ، ولا يقدر على حركة ، غير أنه يسمع وينظر. قال : فيسألانه بعنف ، وينهرانه بجفاء ، وقد صار التراب له كالماء حيثما تحرك انفتح فيه ووجد فيه فرحة ، فيقولان له : من ربك؟ وما دينك؟ ومن نبيك؟ وما قبلتك؟ فمن وفقه الله وثبته بالقول الثابت قال : من وكلكما علي ومن أرسلكما إليّ؟ ثم يقول : الله ربي ، ومحمد نبيّي ، والإسلام ديني ، وهذا ما يقوله ، إلا العلماء الأخيار فيقول أحدهما للآخر صدق لقد كفي شرنا ولقن حجته ، ثم يضربان عليه القبر كالقبة العظيمة ويفتحان له بابا إلى الجنة من تلقاء يمينه ، ثم يفرشان له من حريرها وريحانها ، ويدخل عليه من نسيمها وروائحها ، ويأتيه عمله في صورة أحب الأشخاص إليه يؤنسه ويحدثه ويملأ قبره نورا ، ولا يزال في فرح وسرور ما بقيت الدنيا حتى تقوم الساعة فليس شيء أحب إليه من قيامها. ودونه في المنزلة المؤمن القليل العلم والعمل ، ليس معه حظه من العلم ولا أسرار الملكوت ، يلج عليه عمله عقيب رومان في أحسن صورة طيبة الريح ، حسن الثياب ، فيقول له : أما تعرفني؟ فيقول : من أنت الذي منّ الله علي بك في غربتي؟ فيقول : أنا عملك الصالح لا تحزن ولا توجل! فعما قليل يلج عليك منكر ونكير يسألانك فلا تدهش ، ثم يلقنه حجته ، فبينما هو كذلك إذ دخلا عليه كما تقدم ذكرهما فينهرانه ويقعدانه مستندا ويقولان له : من ربك؟ فيسبق إلى القول الأول فيقول : الله ربي ، ومحمد نبيّي