إلى الظل فتراه واقفا غير متحرك ، وتحكم بنفي الحركة ، ثم بالتجربة والمشاهدة بعد ساعة تعرف أنه متحرك وأنه لم يتحرك دفعة بغتة ، بل على التدريج ذرة ذرة ، حتى لم تكن له حالة وقوف. وتنظر إلى الكوكب فتراه صغيرا في مقدار الدينار ، ثم الأدلة الهندسية تدل على أنه أكبر من الأرض في المقدار. وهذا وأمثاله من المحسوسات يحكم فيها حاكم الحس بأحكامه ، ويكذبه حاكم العقل ويخونه ، تكذيبا لا سبيل إلى مدافعته.
فقلت : قد بطلت الثقة بالمحسوسات أيضا ، فلعله لا ثقة إلا بالعقليات التي هي من الأوليات كقولنا : العشرة أكثر من الثلاثة ، والنفي والإثبات لا يجتمعان في الشيء الواحد ، والشيء الواحد لا يكون حادثا قديما ، موجودا معدوما ، واجبا محالا. فقالت المحسوسات : بم تأمن أن تكون ثقتك بالعقليات كثقتك بالمحسوسات وقد كنت واثقا بي ، فجاء حاكم العقل فكذبني ، ولو لا حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي؟ فلعل وراء إدراك العقل حاكما آخر ، إذا تجلى كذب العقل في حكمه ، كما تجلى حاكم العقل فكذب الحس في حكمه ، وعدم تجلي ذلك الإدراك لا يدل على استحالته. فتوقفت النفس في جواب ذلك قليلا ، وأيدت إشكالها بالمنام وقالت : أما تراك تعتقد في النوم أمورا ، وتتخيل أحوالا ، وتعتقد لها ثباتا واستقرارا ولا تشك في تلك الحالة فيها ، ثم تستيقظ فتعلم أنه لم يكن لجميع متخيلاتك ومعتقداتك أصل وطائل ؛ فبم تأمن أن يكون جميع ما تعتقده في يقظتك بحس أو عقل هو حق بالإضافة إلى حالتك التي أنت فيها ؛ لكن يمكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إلى يقظتك كنسبة يقظتك إلى منامك ، وتكون يقظتك نوما بالإضافة إليها؟ فإذا وردت تلك الحالة تيقنت أن جميع ما توهمت بعقلك خيالات لا حاصل لها ، ولعل تلك الحالة ما تدعيه الصوفية أنها حالتهم ؛ إذ يزعمون أنهم يشاهدون في أحوالهم التي لهم ، إذا غاصوا في أنفسهم وغابوا عن حواسهم أحوالا لا توافق هذه المعقولات ؛ ولعل تلك الحالة هي الموت إذ قال رسول الله صلىاللهعليهوسلم : «النّاس نيام فإذا ماتوا انتبهوا» فلعل الحياة الدنيا نوم بالإضافة إلى الآخرة ، فإذا مات ظهرت له الأشياء على خلاف ما يشاهده الآن ، ويقال له عند ذلك : (فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ) [ق : ٢٢] فلما خطرت لي هذه الخواطر وانقدحت في النفس ، حاولت لذلك علاجا فلم يتيسر ، إذ لم يكن دفعة إلا بالدليل ، ولم يكن نصب دليل إلا من تركيب العلوم الأولية ، فإذا لم تكن مسلمة لم يمكن ترتيب الدليل. فأعضل هذا الداء ، ودام قريبا من شهرين أنا فيهما على مذهب السفسطة بحكم الحال ، لا بحكم النطق والمقال ، حتى شفى الله تعالى من ذلك المرض وعادت النفس إلى الصحة والاعتدال ورجعت الضروريات العقلية مقبولة موثوقا بها على أمن ويقين ؛ ولم يكن ذلك بنظم دليل وتركيب كلام ، بل بنور قذفه الله تعالى في الصدر. وذلك النور هو مفتاح أكثر المعارف ، فمن ظن أن الكشف موقوف على الأدلة المحررة فقد ضيق رحمة الله تعالى الواسعة ؛ ولما سئل رسول الله صلىاللهعليهوسلم عن «الشرح»