من الظلم في هذا العلم ، وهو أنهم يجمعون للبرهان شروطا يعلم أنها تورث اليقين لا محالة ، لكنهم عند الانتهاء إلى المقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط ، بل تساهلوا غاية التساهل ، وربما ينظر في المنطق أيضا من يستحسنه ويراه واضحا فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفريات مؤيدة بمثل تلك البراهين ، فاستعجل بالكفر قبل الانتهاء إلى العلوم الإلهية.
فهذه الآفة أيضا متطرقة إليه.
٣ ـ وأما علم الطبيعيات : فهو يبحث عن عالم السماوات وكواكبها وما تحتها من الأجسام المفردة : كالماء والهواء والتراب والنار ، ومن الأجسام المركبة : كالحيوان والنبات والمعادن ، وعن أسباب تغيرها واستحالتها وامتزاجها. وذلك يضاهي بحث الطبيب عن جسم الإنسان وأعضائه الرئيسية والخادمة ، وأسباب استحالة مزاجه.
وكما أنه ليس من شرط الدين إنكار علم الطب ، فليس من شرطه أيضا إنكار ذلك العلم إلا في مسائل معينة ذكرناها في كتاب" تهافت الفلاسفة" وما عداها مما يجب المخالفة فيها ؛ فعند التأمل يتبين أنها مندرجة تحتها ، وأصل جملتها : أن يعلم أن الطبيعة مسخرة لله تعالى ، لا تعمل بنفسها ، بل هي مستعملة من جهة فاطرها ؛ والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات بأمره لا فعل لشيء منها بذاته.
٤ ـ وأما الإلهيات : ففيها أكثر أغاليطهم ، فما قدروا على الوفاء بالبراهين على ما شرطوه في المنطق ؛ ولذلك كثر الاختلاف بينهم فيها ، ولقد قرب أرسطاطاليس مذهبه فيها من مذاهب الإسلاميين ، على ما نقله الفارابي وابن سينا. ولكن مجموع ما غلطوا فيه يرجع إلى عشرين أصلا ، يجب تكفيرهم في ثلاثة منها ، وتبديعهم في سبعة عشر. ولإبطال مذهبهم في هذه المسائل العشرين ، صنفنا كتاب" التهافت" أما المسائل الثلاث ، فقد خالفوا فيها كافة المسلمين ، وذلك في قولهم :
١ ـ إن الأجساد لا تحشر ، وإنما المثاب والمعاقب هي الأرواح المجردة ، والمثوبات والعقوبات روحانية لا جسمانية.
ولقد صدقوا في إثبات الروحانية ، فإنها كائنة أيضا ، ولكن كذبوا في إنكار الجسمانية ، وكفروا بالشريعة فيما نطقوا به.
٢ ـ ومن ذلك قولهم : " إن الله تعالى يعلم الكليات دون الجزئيات" وهذا أيضا كفر صريح ، بل الحق أنه : (لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَلا فِي الْأَرْضِ) [سبأ : ٣].
٣ ـ ومن ذلك قولهم بقدم العالم وأزليته ؛ فلم يذهب أحد من المسلمين إلى شيء من هذه المسائل. وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات وقولهم إنه عليم بالذات ، لا بعلم زائد على الذات وما يجري مجراه ، فمذهبهم فيه قريب من مذهب المعتزلة ولا يجب تكفير المعتزلة بمثل ذلك ، وقد ذكرنا في كتاب" فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة" ما يتبين فيه فساد رأي من يتسارع إلى