تدري قدر ما عصيتني فيما مضى من عمرك ، ولا قدر ما تعصيني فيما بقي منه ؛ فلا تنس ذكري ، فإني فعّال لما أريد ، واعبدني ، فإنّك عبد ذليل وأنا ربّ جليل. لو أنّ إخوانك ومحبّيك من بني آدم وجدوا رائحة ذنوبك ، واطّلعوا منك على ما أعلمه منها ، لما جالسوك ولا قاربوك ، فكيف وهي في كلّ يوم زائدة ، وعمرك في كلّ يوم في نقصان منذ ولدتك أمّك! يا بن آدم! ليس من انكسر مركبه وعاد على لوح من خشب ، وأحاطته الأمواج في البحر بأعظم مصيبة منك ؛ فكن من ذنوبك على ويقين ومن عملك على خطر. يا بن آدم! إنّي أنظر إليك بالعافية ، وأستر عليك ذنوبك ، وأنا غنيّ عنك وأنت إليّ بالمعاصي مع حاجتك إليّ. يا بن آدم! تداري إلى متى؟ تعمر الدّنيا وهي فانية ، وتخرب الآخرة وهي باقية. يا بن آدم! تداري خلقي وتخافهم خوفا من مقتهم. يا بن آدم! لو أن أهل السّماوات والأرض استغفروا لك لكان ينبغي لك أن تبكي على ذنوبك ، لأنّك لا تدري على أيّ حال تلقاني. يا موسى بن عمران! اسمع ما أقول ، والحقّ أقول : إنّه لا يؤمن بي عبد من عبادي حتّى يأمن النّاس من شرّه وظلمه وكيده ونميمته وبغيه وحسده. يا موسى ، (وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ ، وَمَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ) [الكهف : ٢٩].
الموعظة الخامسة والثّلاثون
يقول الله عزوجل : " يا بن آدم! إنّك أصبحت بين نعمتين ، لا تدري أيّهما أعظم ضدّك ، أذنوبك المستورة عن النّاس أم الثّناء والحسن عليك ولو علم النّاس منك ما أعلمه ، ما سلّموا عليك ، وأعظم من ذلك العافية ، وغناك عنهم ، وحاجتهم إليك ، وكفّ أذاهم عنك. فاحمدني واعرف قدر نعمتي عليك ، وأخلص عملك من الرّياء ، وتزوّد كزاد المسافر الخائف ، واجعل خيرك تحت عرشي. يا بن آدم! قلوبكم القاسية تبكي من أعمالكم ، وأعمالكم تبكي من أبدانكم ، وأبدانكم تبكي من ألسنتكم ، وألسنتكم تبكي من أعينكم. يا بن آدم! خزائني لا تنفذ أبدا ، فبقدر ما تنفق أنفق عليك ، وبقدر ما تمسك أمسك عليك ، وإنّما بخلك على المساكين بما رزقتك لسوء ظنّك وخوفك الفقر ، وعدم ثقتك فيّ ، لأنّي جعلت أصل خلقتك الاهتمام بالرّزق ، فإذا اهتممت بالرّزق ورزقتك ، فأنفق ولا تبخل برزقي على عبادي ، فقد ضمنت لك الخلف ، ووعدتك الأجر ، فلم تشكّ في كتابي؟ ومن لم يصدّق بوعدي ، ومن لم يصدّق بأنبيائي ، فقد جحد ربوبيّتي ، ومن جحد ربوبيّتي كببته في النّار على وجهه".
الموعظة السّادسة والثّلاثون
قال الله تعالى : " يا بن آدم! أنا الله لا إله إلّا أنا فاعبدوني واشكروا لي ولا تكفرون. يا بن آدم! من عادى لي وليّا ، فقد بارزني بالمحاربة. واشتدّ غضبي على من ظلم من ليس له ناصر غيري ؛ من رضي بما قسمت له ، باركت له في رزقه ، وأتته الدّنيا راغمة وإن كان لا يريدها".