رضي الله عنه لما سئل عن الاستواء : " الاستواء معلوم ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة".
وبهذه الوصايا يستبين عذري في كراهيتي للجواب عن مثل هذه الأسئلة ؛ لكن مع هذا أوثر مساعدته في بعض ما أورده فأقول :
أما قوله صلىاللهعليهوسلم : " إنّ الشّيطان يجري من ابن آدم مجرى الدّم" فإشارة إلى سريان أثره في جميع باطن الإنسان كما تجري أجزاء الدم وتسري في جميع باطنه ، وليس المراد أن جسمه يمازج جسم الإنسان ممازجة الماء للماء ؛ وهذا قول عن تحقيق يطول شرح مقدماته وأدلتها عقلية. وأما كيفية مباشرته للقلوب فليس بتخايل يظهره الحس ، فإني أصادف الوساوس في قلبي ، ولست أتخيل شيئا ولا أشاهده بعيني عند اختلاج الوساوس. وهذا الحكم مقدمات دليله أكثرها حسية ؛ بل الوسواس من الشيطان كالإلهام من الملك. ونحن نصادف في قلوبنا خواطر مختلفة ، إذ يدعو بعضها إلى اتباع الهوى ، وبعضها إلى مخالفته ؛ وهذه خواطر مختلفة بدليل اختلاف مقتضياتها. وهي مفترقة إلى أسباب لأنها حادثة ، والمختلفات أسبابها مختلفة ، فسمى الشرع السبب الذي يحصل منه إلهام ملكا ، والذي منه يحصل الوسواس شيطانا. والإلهام عبارة عن الخاطر الباعث على الخير ، والوسواس عبارة عن الباعث عن الشر ، والملك والشيطان عبارة عن أسبابهما. وكما أن النار يستنير بها جوانب البيت ويسود بها أيضا سقفه ، فنعلم أن النور يخالط السواد ، ونعلم أن سببه مخالط لسببه ، وأن سبب النور ضوء النار ، وسبب السواد دخانه ، فبذلك يعلم أن سبب الوسواس غير سبب الإلهام ؛ نعم ، يبقى النظر في أن ذلك السبب عرض أو جوهر قائم بنفسه ؛ وقد ظهر أنه ليس بعرض بل هو جوهر ، فبقي النظر في أنه حي أو ليس بحي ، وظهر أيضا أنه حي بأدلة شرعية ، وللعقل أيضا فيه مدخل ما.
فأما قول الفلاسفة والطبيعيين إنه الأخلاط فهو جهل محض ، لأن تأثير الأخلاط لا يعدو مقتضى الطبائع الأربع من الحرارة ، والبرودة ، والرطوبة ، واليبوسة. والخواطر ، والاعتقادات ، والعلوم لا يجوز إن تكون من آثار الطبائع التي هي أعراض جمادات ، بل هي نازلة من فوق الأرضيات بالرتبة ؛ فينتج أنه جوهر غير متحيز ، أو هو جسم متحيز ، ويمنع أن يوجد غيره بحيث هو لطيف كالهواء ، وكثيف كجسم آخر. وهذا النظر في الملك والجن ، والشيطان ؛ فذهبت طائفة إلى أن كل ما هو قائم بنفسه جسم ، ووصفوا به الخالق ، تعالى الله عن قولهم ، إذ لم يعقلوا إلا جسما.
وقالت طائفة : كل قائم بنفسه جسم إلا الله تعالى ، وأحالوا أن يكون في الوجود سواه جوهر قائم بنفسه لا يتخيل.
وقال قوم : إنّ الملك والجن والشيطان ، كل هؤلاء جواهر حسية قائمة بنفسها وليست بأجسام ولا متحركات ؛ وإنما استعمال النزول والانتقال والمجيء والذهاب عليها استعارة كما في حق الله ؛ بل ثار هذا الخلاف بينهم أيضا في الجوهر العالم المدرك من الإنسان ، فقال قوم : هو جزء لا يتجزأ ولا يتحيز. فلا هو داخل البدن ، ولا هو خارجه ، ولا هو متصل ، ولا هو منفصل ؛ بل