هذا معنى قوله تعالى : (قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ (١) إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِهِ).
وقوله تعالى (فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَلا عادٍ) أي غير ظالم بأكل الميتة وما ذكر معها وذلك بأن يأكلها تلذذا بها لا دفعا لغائلة الموت وهو كاره لأكلها (وَلا عادٍ) أي غير متجاوز القدر الذي أبيح له وهو ما يدفع به غائلة الموت عن نفسه (فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) ومن مظاهر مغفرته ورحمته أنه أذن للمضطر بالأكل مما هو حرام في الضرورة.
هذا ما دلت عليه الآية الأولى (١٤٥) أما الآية الثانية فبعد أن بين تعالى أنه لم يحرم على المؤمنين غير ما ذكر من الميتة وما ذكر بعدها أخبر أنه حرم على اليهود أكل كل ذي ظفر وهو ما ليس له أصابع مفرقة مثل الإبل والنعام والبط والإوز ومن البقر والغنم حرم عليهم شحومهما وهو الشحم اللاصق بالكرش والكلى ، وأباح لهم من الشحوم ما حملته البقرة أو الشاة على ظهرها ، وما كان لاصقا بالمباعر وهي الحوايا جمع حاوية وكذا الشحم المختلط بالعظام كشحم اللية ، وشحم الجانب والأذن والعين وما إلى ذلك.
هذا ما تضمنه قوله تعالى من الآية الثانية (وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ) ثم أخبر تعالى بأن هذا التحريم عليهم كان عقوبة لهم بسبب ظلمهم وإجرامهم فقال (ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ) (٢) أي ذلك التحريم منا عليهم كان جزاء ظلمهم ، وقوله (وَإِنَّا لَصادِقُونَ) فيما أخبرنا به عنهم ، وهم الكاذبون إذ قالوا إنما حرم هذا على إسرائيل ونحن أتباع له أما نحن فلم يحرم علينا شىء وإنهم لكاذبون. وقوله تعالى (فَإِنْ كَذَّبُوكَ) (٣) أي اليهود فيما أخبرت به عنهم (فَقُلْ) لهم (رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ) (٤) ولذا لم يعاجلكم بالعقوبة وقد كذبتموه وكذبتم رسوله وافتريتم على رسله ، ولكن ليس معنى ذلك أنكم نجوتم من
__________________
(١) هل هذه الآية منسوخة بآية المائدة؟ اختلف في ذلك والراجح أنها غير منسوخة إذ هي خبر والأخبار لا تنسخ وآية المائدة ذكرت المنخنقة وما بعدها وهي داخلة في حكم الميتة ، وما ذبح على النصب داخل في وما أهل به لغير الله إذا فالآية محكمة.
(٢) من بغيهم قتلهم الأنبياء وأكل الربا وتبرج النساء واستحلال المحرمات بالحيل والفتاوى الفاسدة.
(٣) قيل إن المراد بالمكذبين المشركون ، وقيل اليهود وكلاهما مكذب وكافر واللفظ يصدق عليهما معا.
(٤) من مظاهر رحمته أنه يحلم على العصاة وينظرهم ويمهلهم لعلهم يتوبون فعدم تعجيله العقوبة هو دليل رحمته الواسعة.