وإرسال الملكين الخلّاقين والملك الزاجر ، لا ينافي استناد هذه الحوادث إلى الطبيعة ، فإنّما هو طوليّ ، وليس أحدهما في عرض الآخر حتّى يتدافعا أو يعود الأمر إلى تركّب العلّة التامّة من مجموعهما ، بل كلّ منهما تمام العلّة لكن في مرتبته ، فمن أقامه الله لهداية الناس إلى مرضاته وظيفته البيان بسلوك مسلك الباطن من توسيط الملائكة ، واستناد الحوادث إلى عملهم ونسبة السعادة بخصوصيّاتها إليهم ونسبة الشقاء بخصوصيّاته إلى الشيطان ، ونسبة الجميع إليه ـ سبحانه ـ على ما يليق بقدس ساحته وحضرته حتّى يستنتج منها صور الهداية والضلالة ، والربح والخسران ، وبالجملة ، شؤون الحياة الآخرة.
ولذلك لو أوفيت التصفّح واجدت التتبّع في الظواهر الدينيّة ، وجدت فيها خصوصيّات الحوادث وأحكام العالم برمّتها وجملتها منسوبة إلى مشيئة الرحمان ووساطة الملك والشيطان شبيه تشكّل المملكة عندنا حيث تنتظم من عدّة مؤتلفة من أفراد الإنسان بالإجتماع والتعاون ، وهم الرعيّة ، وتجتمع أزمّتهم عند عرش الملك وتنتظم امورهم من أحكام صادرة عنه ، ويتوسّط بينه وبينهم في أخذها وإيصالها وإجرائها وجميع تقليباتها جماعة اخرى ، هم الوزراء والمستشارون والامراء والأعوان والحجّاب والجنود وغيرهم ، كلّ ذلك تشبّها بالطبيعة ، وأنّ الشريعة تجاري معهم في بيان ما تتشبّه به الطبيعة بأخذ ما تشبّه بالطبيعة أخذا بالمعروف المعهود عند الناس ، وأمّا بحسب الحقيقة فالنظام الاجتماعي يتشبّه بالطبيعة ، والطبيعة تتشبّه بما ورائها ، قال سبحانه : (وَما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ) ، (١)
__________________
(١). العنكبوت (٢٩) : ٦٤.