الجليل ، أي الرجوع إليه سبحانه بعين التذلّل ، فحقّ العبادة هو العبادة لله حقا ومن البيّن أن التلقّيات والأفهام تختلف باختلاف الأحوال الوجدانية كالجوع والشبع والعطش والريّ ، وشهوة الجماع وشهوة الانتقام ، فالشجاع الغضبان ربّما لم ينفعه جلّ المواعظ في العفو والصفح ، كما أنّ الجبان لا ينفع في تغييره عكسها موعظة ، فالمؤمن المتعارف وهو من أهل الدنيا مأنوس الذهن بالعادات والرسوم والحسن والقبح ، يتلقّى الخطابات الإلهيّة بوجه ، والمؤمن المحبّ الذي يتوق حبّا قد عزفت نفسه الدنيا ولذائذها ، وحسنها وقبحها ، وبلغ به حاله أنّه لا يريد دنيا ولا آخرة إلّا ربّه ـ جلت عظمته ـ ولا همّ له إلّا أن ينسي كل شيء ، وعلى الخصوص نفسه التي هي أعدى عدّوه في سبيل السير إلى ربه ، على ما هو شأن المحب المتيّم يتلقّاه بوجه آخر ، فهو دائما مراقب مترصّد لإمحاء الوسائط وهتك الأستار.
فصار كلّما سمعه من الخطابات والتلقينات يتلقّاه على غير ما يتلقّى الفهم العادي ، فإذا سمع أنّ الله سبحانه يقول : (أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً) (١) ، وأمثالها ، تحقّق ظنّه في صدق ما يريد ، ولم يأل جهدا في الإخلاص وإصلاح العمل ، وإذا سمع أنّه سبحانه يقول : (مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللهِ لَآتٍ) (٢) ، تلقّاه وعدا للّقاء وغلت نفسه وتاقت واشتاقت لذلك وحبّ لقاء الله مفتاح باب الولاية.
قال سبحانه : (إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ) (٣).
__________________
(١). الكهف (١٨) : ١١٠.
(٢). العنكبوت (٢٩) : ٥.
(٣). الجمعة (٦٢) : ٦.