دون الهجو ، ومنهم من يبرز فى الهجو دون المدح ، ومنهم من يسبق فى التقريظ دون التأبين ، ومنهم من يجوز فى التأبين دون التقريظ ، ومنهم من يغرب فى وصف الإبل والخيل أو سير الليل ، أو وصف الروض. أو وصف الخمر أو الغزل أو غير ذلك مما يشتمل عليه الشعراء ويتداوله الكلام ، ولذلك ضرب المثل : بامرئ القيس إذا ركب ، والنابغة إذا رهب ، وبزهير إذا رغب ، ومثل ذلك يختلف فى الخطيب والرسائل وسائر أجناس الكلام. ومتى تأملت شعر الشاعر البليغ رأيت التفاوت فى شعره على حسب الأحوال التي يتصرف فيها ، فيأتى بالغاية فى البراعة فى معنى ، فإذا جاء إلى غيره قصر عنه ووقف دونه وبان الاختلاف على شعره.
ثم نجد فى الشعراء من يجود فى الرجز ولا يمكنه نظم القصيد أصلا ، ومنهم من ينظم القصيد ، ولكن يقصر فيه مهما تكلفه أو عمله ، ومن الناس من يجود فى الكلام المرسل ، فإذا أتى بالموزون قصر ونقص نقصانا عجيبا ، ومنهم من يوجد بضد ذلك. وقد تأملنا نظم القرآن فوجدنا جميع ما يتصرف فيه من الوجوه التى قدمنا ذكرها على حدّ واحد فى حسن النظم وبديع التأليف والرصف ، لا تفاوت فيه ولا انحطاط عن المنزلة العليا ، ولا إسفال فيه إلى الرتبة الدنيا. وكذلك قد تأملنا ما يتصرف إليه وجوه الخطاب من الآيات الطويلة والقصيرة ، فرأينا الإعجاز فى جميعه على حدّ واحد لا يختلف. وكذلك قد يتفاوت كلام الناس عند إعادة ذكر القصة الواحدة فرأيناه غير مختلف ولا متفاوت ، بل هو على نهاية البلاغة وغاية البراعة ، فعلمنا بذلك أنه مما لا يقدر عليه البشر ، لأن الذى يقدرون عليه قد بينا فيه التفاوت الكثير عند التكرار ، وعند تباين الوجوه واختلاف الأسباب التى يتضمن.
ومعنى رابع : وهو أن كلام الفصحاء يتفاوت تفاوتا بينا فى الفصل والوصل ، والعلوّ والنزال ، والتقريب والتبعيد ، وغير ذلك مما ينقسم إليه الخطاب عن النظم ويتصرف فيه القول عند الضم والجمع ، ألا ترى أن كثيرا من الشعراء قد وصف بالنقص عن التنقل من معنى إلى غيره ، والخروج من باب إلى سواه ، حتى إن أهل الصنعة قد اتفقوا على تقصير البحترى مع جودة نظمه