ثم منهم من قال : إن الرجز ليس بشعر أصلا ، لا سيما إذا كان مشطورا أو منهوكا ، وكذلك ما كان يقارنه فى قلة الأجزاء.
ويقولون : إن الشعر إنما يطلق متى قصد القاصد إليه على الطريق الذى يتعمد ويسلك ، ولا يصح أن يتفق مثله إلا من الشعراء دون ما يستوى فيه العامى والجاهل والعالم بالشعر واللسان وتصرفه ، وما يتفق من كل واحد فليس يكتسب اسم الشعر ولا صاحبه اسم شاعر ، لأنه لو صح أن يسمى كل من اعترض فى كلامه ألفاظ تتزن بوزن الشعر ، أو تنتظم انتظام بعض الأعاريض كان الناس كلهم شعراء ، لأن كل متكلم لا ينفك من أن يعرض فى جملة كلام كثير يقوله ما قد يتزن بوزن الشعر وينتظم انتظامه ؛ ألا ترى أن العامى قد يقول لصاحبه أغلق الباب وائتني بالطعام ، ويقول الرجل لأصحابه أكرموا من لقيتم من تميم ، ومتى تتبع الإنسان هذا عرف أن يكثر فى تضاعيف الكلام مثله وأكثر منه ، وهذا القدر الذى يصح فيه التوارد ليس يعده أهل الصناعة سرقة ، إذا لم تعلم فيه حقيقة الأخذ كقوله امرئ القيس :
وقوفا بهم صحبى على مطيهم |
|
يقولون لا تهلك أسى وتحميل |
وكقوله طرفة :
وقوفا بها صحبى على مطيهم |
|
يقولون لا تهلك أسى وتجلد |
ومثل هذا كثير ، فإذا صح مثل ذلك فى بعض البيت ولم يمتنع فيه فكذلك لا يمتنع وقوعه فى الكلام المنثور اتفاقا غير مقصود إليه ، فإذا اتفق لم يكن ذلك شعرا ، وكذلك يمتنع التوارد على بيتين ، وكذلك يمتنع فى الكلام المنثور وقوع البيتين ونحوهما ، فثبت بهذا أن ما وقع هذا الموقع لم يعدّ شعرا ، وإنما يعدّ شعرا ما إذا قصده صاحبه تأتى له ولم يمتنع عليه ، فإذا كان هو مع قصده لا يتأتى له وإنما يعرض فى كلامه عن غير قصد إليه لم يصح أن يقال إنه شعر ، ولا إن صاحبه شاعر ، ولا يصح أن يقال : إن هذا يوجب أن مثل هذا لو اتفق من شاعر فيجب أن يكون شعرا لأنه لو قصده لكان يتأتى منه ، وإنما لم يصح ذلك لأن ما ليس بشعر فلا يجوز أن يكون شعرا من أحد ، وما كان شعرا من أحد من الناس كان شعرا من كل أحد ؛ ألا ترى أن السوقى قد يقول اسقنى الماء يا غلام سريعا قد يتفق ذلك من الساهى ومن لا تقصد النظم ، فأما الشعر إذا بلغ الحدّ الذى بينا فلا يصح أن يقع إلا من قاصد إليه.