الإشارة : من علامة الغفلة عن الله : الإنكار على أولياء الله ، والإعراض عما خصهم الله تعالى به من الآيات وخوارق العادات ، كالعلوم اللدنية والمواهب القدسية ، وكمال المعرفة ، والرسوخ فى اليقين ، وشهود رب العالمين ، مع الاشتغال بعمارة هذه الدار ، ونسيان دار القرار ؛ كأنه أمن من الموت ؛ من شدة الاغترار. وسبب ذلك : عدم التفكر والاعتبار. ولذلك قال تعالى بإثر قصص من أهلكهم من الأمم الغافلة :
(وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (٨٥) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (٨٦))
يقول الحق جل جلاله : (وَما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما) من الكائنات (إِلَّا بِالْحَقِ) أي : إلا خلقا ملتبسا بالحق ، وهو الدلالة على كمال قدرتنا وباهر حكمتنا ، فمن كمال القدرة : إهلاك أهل الفساد ، ودفع شرورهم وإبطال فسادهم ، ومن باهر حكمته أنه لم يهلكهم إلا بسبب عتوهم وفسادهم. فالحكمة رداء للقدرة ، القدرة تبرز ، والحكمة تستر ، فإظهار الكائنات يدل على كمال القدرة ، وترتيبها على أسباب وشروط يدل على باهر الحكمة. ومن مقتضيات الحكمة : ترتيب الجزاء على العمل ، بحيث لا يهمل عملا ، فأهل الإكرام يترتب إكرامهم وإنعامهم على عملهم الصالح ، واعتقادهم الصحيح ، وما قاسوه من المجاهدة والمكابدة. وأهل الانتقام يترتب الانتقام منهم على عملهم الفاسد ، واعتقادهم الباطل ، وعلى ما قالوا فى الدنيا ، التي هى مزرعة الآخرة ، من الدعة والحظوظ الفانية ، ولذلك رتّب عليه قوله :
(وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ) فيجازى فيها من يستحق الإكرام ، ويعاقب من يستحق الانتقام ، وينتقم لك فيها ممن يكذبونك ، (فَاصْفَحِ) اليوم (الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) ولا تعجل بالانتقام ، وعاملهم معاملة الصفوح الحليم. وكان هذا قبل الأمر بالقتال. (إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ) الذي خلقك وخلقهم ، وبيده أمرك وأمرهم ، (الْعَلِيمُ) بحالك وبحالهم ، فهو الحقيق بأن تتكل عليه حتى يحكم بينك وبينهم. أو : هو الخلاق لأشباحكم وأرواحكم ، العليم بما هو الأصلح لكم فى الوقت ، وقد علم أن الصفح اليوم أصلح. والخلاق أبلغ من الخالق باعتبار اللغة ، وأفعال الله تعالى كلها عظيمة كثيرة.
الإشارة : ما نصبت لك الكائنات لتراها بعين الفرق ، بل لترى فيها مولاها بعين الجمع. وما جعل لك هذه الدار لتتخذها دار القرار ، وإنما جعلها قنطرة ومعبرا لدار القرار. إنما جعل لك الدنيا الفانية مزرعة للدار الباقية. وإن الساعة لآتية ، فاصبر فى هذه الدار اللمحة اليسيرة على شدائد الزمان ، وجفوة الإخوان ، واصفح الصفح الجميل ،