(قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ) أي : الكافر الجاهل ، الذي عميت بصيرته بالجهل والشرك ، والمؤمن الموحد الذي انفتحت بصيرته بالإيمان والعلم. أو المعبود الغافل عن عبادة من عبده ، والعالم بأسرار عباده. (أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ) ؛ الكفر والإيمان ، أو الجهل والعلم. (أَمْ) : بل (جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ) من صفتهم ، (خَلَقُوا كَخَلْقِهِ ، فَتَشابَهَ) ؛ التبس (الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ) فلم يدروا ما خلق الله مما خلق أصنامهم ، وهذا كله داخل فى الإنكار. والمعنى : هل خلق شركاؤهم خلقا كخلق الله ، فالتبس الخلق عليهم ، فلم يميزوا خلق الله من خلق أصنامهم ، حتى ظنوا أنها تستحق أن تعبد مع الله ، أو يطلب منها حوائج دون الله؟!.
ثم أبطل ذلك بقوله : (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ، قال البيضاوي : والمعنى أنهم ما اتخذوا له شركاء خالقين مثله حتى يتشابه الخلق عليهم ، فيقولوا : هؤلاء خلقوا كما خلق الله ، واستحقوا العبادة كما استحقها ، ولكنهم اتخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق ، فضلا عما يقدر عليه الخالق. ه. (قُلِ اللهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) ؛ لا خالق غيره فيشاركه فى العبادة. جعل الخلق موجب العبادة ، ولازم استحقاقها ، ثم نفاه عما سواه ؛ ليتحقق انفراده بالربوبية والقهرية كما أفاده قوله : (وَهُوَ الْواحِدُ) فى الألوهية ، (الْقَهَّارُ) بتصريف أحكام الربوبية. ه.
الإشارة : إذا علم العبد أن ربه قائم بأمر خلقه ، مدبر لشأن ملكه ، من عرشه إلى فرشه ، جعل حوائجه كلها وقفا عليه ، وانحاش بكليته إليه ، ورفع همته عن خلقه ، إذ ليس بيدهم ضر ولا نفع ، ولا جلب ولا دفع ، بل هم عاجزون عن إصلاح أنفسهم ، فكيف يقدرون أن ينفعوا غيرهم؟! وفى الحكم العطائية : «لا ترفعن إلى غيره حاجة هو موردها عليك ، فكيف يرفع إلى غيره ما كان هو له واضعا ، من لا يستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه : فكيف يستطيع أن يكون لها من غيره رافعا». وقال بعض العارفين من المكاشفين ـ رضى الله عنهم ـ : قيل لى فى نوم كاليقظة ، أو يقظة كالنوم : لا تبدينّ فاقة فأضاعفها عليك ؛ مكافأة لسوء أدبك ، وخروجك عن حد عبوديتك. إنما ابتليتك بالفاقة لتفزع بها إلىّ ، وتتضرع بها لدىّ ، وتتوكل فيها علىّ. سبكتك بالفاقة لتصير ذهبا خالصا ، فلا تزيفن بعد السبك ، وسمتك بالفاقة وحكمت لنفسى بالغنى ، فإن وصلتها بي وصلتك بالغنى ، وإن وصلتها بغيري قطعت عنك مواد معونتى ، وحسمت أسبابك من أسبابى ، طردا لك عن بابى. فمن وكلته إلىّ ملك ، ومن وكلته إليه هلك. ه.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلى رضى الله عنه : آيست من نفع نفسى لنفسى ، فكيف لا آيس من نفع غيرى لها ، ورجوت الله لغيرى فكيف لا أرجوه لنفسى؟. ه. فالبصير من اعتمد فى أموره على مولاه ، والأعمى من ركن فى حوائجه إلى سواه. فأنوار التفويض والتسليم لا تستوى مع ظلمات الشرك والتدبير ؛ (قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَالنُّورُ). وبالله التوفيق.