«مثل ما بعثني الله به من الهدى ...» الحديث (١) ، فإنه يشهد لذلك التأويل. وتقدم له بنفسه فى قوله : (أَأَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ) (٢) ما يشير إلى تفسير أهل الإشارة والرموز. وراجع ما تقدم لنا فى خطبة الكتاب يظهر لك الحق والصواب.
قال البيضاوي : مثّل الحقّ فى إفادته وثباته ، بالماء الذي ينزل من السماء ، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة والمصلحة ، فتنفع به أنواع المنافع ، ويمكث فى الأرض ، فيثبت بعضه فى منابعه ، ويسلك بعضه فى عروق الأرض إلى العيون والآبار ، وبالفلزّ الذي ينتفع به فى صوغ الحلي ، واتخاذ الأمتعة المختلفة ، ويدوم ذلك مدة متطاولة. والباطل ، فى قلة نفعه وسرعة ذهابه ، بزبدهما ، وبيّن ذلك بقوله : (فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً) ، أي : مرميا به ، من جفاه : رمى به وأبعده ، أي : يرمى به السيل والفلز المذاب. ه. (وَأَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ) كالماء ، وخالص الذهب أو الحديد ، (فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ) لينتفع به أهلها. (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْأَمْثالَ) لإيضاح المشكلات المعنوية ، بالمحسوسات المرئية.
(لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ) بالإيمان والطاعة ، (الْحُسْنى) أي : المثوبة الحسنى ، أو الجنة. (وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ) من الكفرة (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ) من هول ذلك المطلع. أو : يضرب الأمثال للذين استجابوا الاستجابة الحسنى ، وللذين لم يستجيبوا له. ثم بيّن مثال غير المستجيبين بقوله : (لَوْ أَنَّ لَهُمْ ...) إلخ : (أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ) ؛ أقبحه وأشده ، وهو أن يناقش فيه ، بأن يحاسب العبد على كل ذنب ، ولا يغفر منه شىء ، (وَمَأْواهُمْ) : مرجعهم (جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهادُ) ؛ الفراش والمستقر ، والمخصوص محذوف ، أي : هذا.
الإشارة : قد اشتملت الآية على ثلاثة أمثلة : مثال للعلم النافع ، ومثال للعمل الخالص ، وللحال الصافي. فمثّل الحقّ تعالى العلم النافع بالمطر النازل من السماء ، فإنه تحيا به الأرض ، وتجرى به الأودية والعيون والآبار ، ويحبس فى الخلجان والقدور لنفع الناس ، وتتطهر به الأرض من الخبث ؛ لأنه ترمى به السيول فيذهب جفاء ، كذلك العلم النافع تحيا به النفوس بعد الموت بالجهل والشك ، وتحيا به الأرواح بعد موتها بالغفلة والحجاب ، وتمتلئ به القلوب على قدر وسعها وسعتها ، وعلى قدر ما قسم لهم من علم اليقين ، أو عين اليقين ، أو حق اليقين ، وتتطهر به النفوس من البدع وسائر المعاصي.
__________________
(١) لفظ الحديث كاملا : «مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير ، أصابت أرضا ، فكانت منها طائفة طيبة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب ، أمسكت الماء فنفع الله الناس ، فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما هى قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه فى دين الله ، ونفعه الله به ، فعلم وعلّم. ومثل من لم يرفع بذلك رأسا ، ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به» أخرجه البخاري فى (العلم ، باب فى من علم وعلّم) ومسلم فى (الفضائل ، باب بيان ما بعث النبي به من الهدى والعلم) من حديث أبى موسى رضى الله عنه.
(٢) من الآية ٤٠ من سورة يوسف.