لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (٢٤) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (٢٥))
قلت : (قَضى) ، هنا ، بمعنى حكم وأوجب وأمر ، لا بمعنى القضاء ؛ إذ لو كان كذلك لما عبد غير الله. وفى مصحف ابن مسعود : «ووصى ربك ألا تعبدوا». و (أن) : مفسرة ، أو مصدرية ، أي : بأن لا تعبدوا ، و (إِمَّا) : إن الشرطية دخلت عليها «ما» المؤكدة. و (فَلا تَقُلْ) : جوابها. وتوحيد ضمير الخطاب فى (عِنْدَكَ) ، وفيما سبق ـ مع أن ما سبق ضمير الجمع ـ ؛ للاحتراز عن التباس المراد ، فإنّ المقصود نهى كل أحد عن تأفيف والديه ونهرهما. ولو قوبل الجمع بالجمع ، أو بالتثنية ، لم يحصل هذا المرام.
و (أُفٍّ) : اسم فعل ، معناها : قول مكروه ، يقال عند الضجر ونحوه. قال الهروي : أي : لا تقل لهما ما يكون فيه أدنى تبرم ، ويقال لكل ما يضجر منه ويستثقل : أفّ له. وقال فى القاموس : أفّ ، يؤفّ ، ويئفّ : تأفف من كرب أو ضجر. وأفّ : كلمة تكره ، وأفف تأفيفا ، وتأفّف ، قالها (١) ، ولغتها أربعون ، ثم ذكرها. وحركتها للبناء ، وتنوينها للتنكير.
يقول الحق جل جلاله : (وَقَضى رَبُّكَ) ؛ أمر أمرا مقطوعا به ، ب (أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ) ؛ لأن غاية التعظيم لا يكون إلا لمن له غاية العظمة ونهاية الإنعام ، وهو الله وحده ، (وَ) أحسنوا (بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً) ؛ لأنهما السبب الظاهر فى وجود العبد ، وبهما قامت نعمة الإمداد من التربية والحفظ فى مظاهر الحكمة ، وإلّا فما ثمّ إلا تربية الحق تعالى ، ظهرت فى مظاهر الوالدين ، لكن أمر بشكر الواسطة ؛ «من لم يشكر الناس لم يشكر الله».
ثم أمر ببرهما ، فقال : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما) أي : مهما بلغ زمن الكبر ، وهما عندك فى كفالتك ، هما أو أحدهما ، (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) أي : فلا تضجر فيما يستقذر منهما ويستثقل من مؤنتهما ، ولا تنطق بأدنى كلمة توجعهما ، فأحرى ألا يقول لهما ما فوق ذلك. فالنهى عن ذلك يدل على المنع من سائر أنواع الإيذاء ؛ قياسا بطريق الأحرى. وقال فى الإحياء : الأفّ : وسخ الظفر ، والتف : وسخ الأذن ، أي : لا تصفهما بما تحت الظفر من الوسخ ، فأحرى غيره ، وقيل : لا تتأذّ بهما كما يتأذى بما تحت الظفر. ه.
(وَلا تَنْهَرْهُما) ؛ ولا تزجرهما عما لا يعجبك بإغلاظ ، فإن كان لإرشاد دينى فبرفق ولين. (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) ؛ جميلا لينا لا غلظ فيه ، (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ) ؛ ألن لهما جانبك الذليل ، وتذلل لهما وتواضع. استعار للذل جناحا ، وأضافه إليه ؛ مبالغة ؛ فإنّ الطير إذا تذلل أرخى جناحه إلى الأرض ، كذلك الولد ، ينبغى أن يخضع لأبويه ، ويلين جانبه ، ويتذلل لهما غاية جهده. وذلك (مِنَ الرَّحْمَةِ) أي : من إفراط الرحمة
__________________
(١) أي : قال كلمة «أف».