ومن تمام برهما : زيارتهما بعد موتهما ، والدعاء لهما ، والتصدق عليهما ، ففى الحديث : «إنما الميت فى قبره كالغريق ، ينتظر دعوة تلحقه من ابنه أو أخيه أو صديقه ، فإذا لحقته كانت أحب إليه من الدنيا وما فيها». وروى مالك فى الموطأ عن سعيد بن المسيب أنه قال : (كان يقال : إن الرجل ليرفع بدعاء ولده من بعده ، وأشار بيده نحو السماء) ، وهو مرفوع إلى النبي صلىاللهعليهوسلم : من طريق أبى هريرة قال : «إن الله ليرفع العبد الدرجة ، فيقول : يا رب ، أنّى لى بها؟! فيقول : باستغفار ابنك لك» (١) ، وسأل رجل النبي صلىاللهعليهوسلم : هل بقي من بر أبوىّ شىء أبرهما به ، بعد موتهما؟ فقال : «نعم .. الصلاة عليهما ـ أي : الترحم والاستغفار لهما ـ ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما» (٢).
قال تعالى : (رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ) من قصد البر إليهما ، واعتقاد ما يجب لهما من التوقير. وكأنه تهديد على أن يضمر لهما كراهة واستثقالا ، (إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ) ؛ قاصدين للصلاح ، أو طائعين لله ، (فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ) : التوابين ، أو الرجّاعين إلى طاعته ، (غَفُوراً) لما فرط منهم عند حرج الصدر ؛ من إذاية ظاهرة أو باطنة ، أو تقصير فى حقهما. ويجوز أن يكون عاما لكل تائب ، ويندرج فيه الجاني على أبويه اندراجا أوليا. والله تعالى أعلم.
الإشارة : كل ما أوحى الله تعالى به فى حق والدي البشرية ، يجرى مثله فى والد الروحانية ، وهو الشيخ ، ويزيد ؛ لأنه أوكد منه ؛ لأنّ أب البشرية كان السبب فى خروجه إلى دار الدنيا ، معرضا للعطب أو السلامة ، وأب الروحانية كان سببا فى خروجه من ظلمة الجهل إلى نور العلم والوصلة ، وهما السبب فى التخليد فى النعيم الذي لا يفنى ولا يبيد. وقد تقدم فى سورة النساء تمام هذه الإشارة (٣). والله تعالى أعلم.
ثم أمر بالإحسان إلى القرابة ؛ لقربهما من الوالدين ، تعظيما لهما ، فقال :
(وَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (٢٦) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَكانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (٢٧) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (٢٨) وَلا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَلا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (٢٩) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (٣٠))
__________________
(١) أخرجه أحمد فى المسند (٢ / ٥٠٩) ، وابن ماجة فى (الأدب ، باب بر الوالدين) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٢) أخرجه أبو داود فى (الأدب ، باب فى بر الوالدين) وابن ماجة فى (الأدب ، باب صل من كان أبوك يصل) والحاكم فى المستدرك (٢ / ٣٠٦٦) ، وصححه ووافقه الذهبي من حديث مالك بن ربيعة الساعدي الأنصاري.
(٣) راجع إشارة الآية ٣٦ من سورة النساء.