هذه؟ وكلامنا مع العارفين ، وأما الصالحون والعباد والزهاد فهم محتاجون إلى الكرامة ؛ ليزداد إيقانهم ، وتطمئن نفوسهم ؛ إذ لم يرتفع عنهم الحجاب ، ولم تنقشع عنهم سحابة الأثر.
والهداية بيد الله ، كما قال تعالى :
(وَمَنْ يَهْدِ اللهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (٩٧) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَقالُوا أَإِذا كُنَّا عِظاماً وَرُفاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (٩٨))
قلت : (عَلى وُجُوهِهِمْ) : حال من ضمير «نحشرهم». و (عُمْياً ..) إلخ : حال أيضا من ضمير (وُجُوهِهِمْ). و (مَأْواهُمْ) : استئناف ، وكذا : (كُلَّما ..) إلخ.
يقول الحق جل جلاله : (وَمَنْ يَهْدِ اللهُ) إلى الحق الذي جاء من قبله على أيدى الرسل ، (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) إليه ، وإلى ما يؤدى إليه من الثواب ، أو فهو المهتدى إلى كل مطلوب ، (وَمَنْ يُضْلِلْ) أي : يخلق فيه الضلال ، كهؤلاء المعاندين ، (فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ) ينصرونهم من عذابه ، أو يهدونهم إلى طريقه ، ويوصلونهم إلى مطالبهم الدنيوية والأخروية. ووحد الضمير أولا فى قوله : (فَهُوَ الْمُهْتَدِ) : مراعاة للفظ «من» ، وجمع ثانيا فى (لَهُمْ) ؛ مراعاة لمعناها ؛ تلويحا بوحدة طريق الحق ، وتعدد طرق الضلال.
(وَنَحْشُرُهُمْ) ، فيه التفات من الغيبة إلى التكلم ؛ إيذانا بكمال الاعتناء بأمر الحشر ، أي : ونسوقهم (يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ) أي : كابين عليها ؛ سحبا ، كقوله : (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ) (١) ، أو : مشيا إلى المحشر بعد القيام ، فقد روى أنه قيل لرسول الله صلىاللهعليهوسلم : كيف يمشون على وجوههم؟ قال : «الذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم» (٢). حال كونهم (عُمْياً وَبُكْماً وَصُمًّا) ؛ لا يبصرون ما يقر أعينهم ، ولا ينطقون بما يقبل منهم ، ولا يسمعون ما يلذ مسامعهم ، لمّا كانوا فى الدنيا لا يستبصرون بالآيات والعبر ، ولا ينطقون بالحق ولا يستمعونه. ويجوز أن يحشروا ، بعد الحساب ، من الموقف إلى النار ، مؤوفي (٣) القوى والحواس. وأن يحشروا كذلك ، ثم تعاد إليهم قواهم وحواسهم ، فإنّ إدراكاتهم بهذه المشاعر فى بعض المواطن مما لا ريب فيه.
__________________
(١) من الآية ٤٨ من سورة القمر.
(٢) أخرجه أحمد فى المسند (٢ / ٣٥٥٤) ، والترمذي وحسنه فى (التفسير ـ سورة الإسراء) من حديث أبى هريرة رضي الله عنه.
(٣) مؤوفى : صيغة جمع مضافة ، من الآفة ، وهى العاهة. وأيف الزرع : أصابته آفة ، فهو مؤوف ؛ على وزن : معوف. انظر مختار الصحاح (أوف).