قال تعالى : (فَسْئَلْ) (١) (بَنِي إِسْرائِيلَ) أي : سل ، يا محمد ، بنى إسرائيل المعاصرين لك عما ذكرنا من قصة موسى ؛ لتزداد يقينا وطمأنينة ، أو : ليظهر صدقك لعامة الناس ، أو : قلنا لموسى : سل بنى إسرائيل من فرعون ، أي : اطلبهم منه ؛ ليرسلهم معك ، أو سل بنى إسرائيل أن يعضدوك ويكونوا معك. ويؤيد هذا : قراءة رسول الله صلىاللهعليهوسلم «فسل» ؛ على صيغة الماضي ، بغير همز ، وهى لغة قريش. (إِذْ جاءَهُمْ) أي : آتينا موسى تسع آيات حين جاءهم بالرسالة ، أو قلنا له : سل بنى إسرائيل حين جاءهم بالوحى. (فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ) حين أظهر له ما آتيناه من الآيات ، وبلغة ما أرسل به : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) أي : سحرت فتخبط عقلك.
(قالَ) له موسى : (لَقَدْ عَلِمْتَ) يا فرعون ، (ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ) الآيات التي ظهرت على يدى (إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ) ؛ خالقهما ومدبرهما ، ولا يقدر عليها غيره ، حال كونها (بَصائِرَ) ؛ بينات تبصرك صدقى ، ولكنك تعاند وتكابر ، وقد استيقنتها أنفسكم ، فجحدتم ؛ ظلما وعلوا ، (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) أي : مهلكا مقطوعا دابرك ، أو مغلوبا مقهورا ، أو مصروفا عن الخير. قابل موسى عليهالسلام قول فرعون : (إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً) بقوله : (وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً) ؛ وشتان ما بين الظنين ؛ ظنّ فرعون إفك مبين ، وظن موسى حق اليقين ؛ لأنه بوحي من رب العالمين ، أو من تظاهر أماراته.
(فَأَرادَ) فرعون (أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ) أي : يستخفهم ويزعجهم (مِنَ الْأَرْضِ) ؛ أرض مصر ، (فَأَغْرَقْناهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعاً) ؛ فعكسنا عليه علمه ومكره ، فاستفززناه وقومه من بلده بالإغراق. (وَقُلْنا مِنْ بَعْدِهِ) من بعد إغراقه (لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ) التي أراد أن يستفزكم هو منها. أو أرض الشام. وهو الأظهر ، إذ لم يصح أن بنى إسرائيل رجعوا إلى مصر بالسكنى. وانظر عند قوله : (وَأَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ) (٢) (فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ) أي : الحياة الآخرة ، أو الدار الآخرة ، أي : قيام الآخرة ، (جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً) ؛ مختلطين إياكم وإياهم ، ثم نحكم بينكم ونميز سعداءكم من أشقيائكم. واللفيف : الجماعات من قبائل شتى. والله تعالى أعلم.
الإشارة : لا ينفع فى أهل الحسد والعناد ظهور معجزة ولا آية ، ولا يتوقف عليها من سبقت له العناية ، لكنها تزيد تأييدا ، وطمأنينة لأهل اليقين ، وتزيد نفورا وعنادا ، لأهل الحسد من المعاندين. وبالله التوفيق.
__________________
(١) قرأ ابن كثير والكسائي : «فسل» ؛ بنقل حركة الهمزة إلى السين. وقرأ الباقون : (فَسْئَلْ). انظر الإتحاف ٢ / ٢٠٦.
(٢) الآية ٥٩ من سورة الشعراء.