لنختبرهم ، حتى يظهر ذلك للعيان ، (أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، أيهم أزهد فيها ، وأقبلهم على الله بالعمل الصالح ؛ إذ لا عمل أحسن من الزهد فى الدنيا ؛ إذ هو سبب للتفرغ لأنواع العبادة ، بدنية وقلبية.
قال أبو السعود : وحسن العمل : الزهد فيها ، وعدم الاكتراث بها ، والقناعة باليسير منها ، وصرفها على ما ينبغى ، والتأمل فى شأنها ، وجعلها ذريعة إلى معرفة خالقها ، والتمتع بها حسبما أذن الشرع ، وأداء حقوقها ، والشكر على نعمها ، لا جعلها وسيلة إلى الشهوات ، والأغراض الفاسدة ، كما يفعله الكفرة وأهل الأهواء .. انظر بقية كلامه.
(وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها) ؛ عند تناهى الدنيا ، (صَعِيداً جُرُزاً) أي : ترابا يابسا ، لا نبات فيه ، بعد ما كان يتعجب من بهجته النظار ، ويتشرف بمشاهدته الأبصار ، فلا يغتر بما يذهب ويفنى إلا من لا عقل له ، فلا تستغرب إدبارهم ، إذ لا عقل لهم.
ويحتمل أن يكون تسلية للنبى صلىاللهعليهوسلم ؛ من حيث إنه أرشده إلى شهود تدبير الحق ، فيسلو ، بذلك ، عن إعراضهم ؛ لغيبته فى المصور المدبر عن الصور ، وعن الزينة فى المزيّن ، فالكون مظهر الصفات ومرآتها ، ويغيب فى الذات ـ التي هى معدنها ـ بإفناء الظاهر ، وإفناء الأفعال ، كما نبّه عليه بقوله : (وَإِنَّا لَجاعِلُونَ ...) إلخ.
الإشارة : الخصوصية ـ من حيث هى ـ لها بداية ونهاية ، فمن شأن أهل بدايتها : الحرص على الخير لهم ولعباد الله ، فيتمنون أن الناس كلهم خصوص أو صالحون ، فإذا رأوا الناس أعرضوا عنها تأسفوا عليهم ، وإذا أقبلوا عليهم فرحوا من أجلهم ، زيادة فى الهداية لعباد الله ، فإذا تمكنوا منها ورسخت أقدامهم فيها ، وحصل لهم الفناء الأكبر ، لم يحرصوا على شىء ، ولم يتأسفوا من فوات شىء ، لهم ولغيرهم. وقد يتوجه العتاب لهم على الحرص فى بدايتهم ؛ تكميلا لهم ، وترقية إلى المقام الأكمل.
وقوله تعالى : (إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ ...) إلخ ، هو حكمة تخلف الناس عن الخصوصية ، حتى يتميز الطالب لها من المعرض عنها ، فمن أقبل على زينة الدنيا وزهرتها ، فاتته الخصوصية ، وبقي من عوام الناس ، ومن أعرض عنها وعن بهجتها ، وتوجه بقلبه إلى الله ، كان من المخصوصين بها ، المقربين عند الله.
وهذا هو أحسن الأعمال التي اختبر الله به عباده بقوله : (لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) ، وفى الحديث : «الدنيا مال من لا مال له ، لها يجمع من لا عقل له. وعليها يعادى من لا علم عنده» (١). وفى الزهد والترغيب أحاديث كثيرة مفردة بالتأليف ، وبالله التوفيق.
__________________
(١) أخرجه الإمام أحمد فى المسند (٦ / ٧١) ، والبيهقي فى شعب الإيمان (باب فى الزهد / ١٠٦٣٧) عن السيدة عائشة. رضى الله عنها ، بدون العبارة الأخيرة.